تملك إيران منذ سقوط نظام صدام حسين نفوذا متقدماً وفاضحا داخل العراق.

ومن هذا البلد درج أن تخرج أصوات معادية للسعودية ودول الخليج. غير أن تلك الأصوات التابعة لطهران لطالما كانت جزءا من الفصائل العسكرية الضاربة التابعة للحرس الثوري الإيراني التي بات يتفقدها (بعد مقتل قاسم سليماني) الجنرال إسماعيل قآاني هذه الأيام. ورغم سطوة إيران على الحكم في بغداد لا نذكر أن الأصوات المعادية لدول الخليج كانت تخرج يوما من أعضاء في الحكومة العراقية أو حتى من قبل منبر أو شخصية رسمية في العراق.

والنقاش حول أزمة العلاقة الحالية بين لبنان من جهة والسعودية ومنطقة الخليج من جهة أخرى لا يتعلق فقط بالصراع الأكبر بين إيران ودول المنطقة، بل بوضاعة أداء الحكومات اللبنانية التي لم تستطع، حتى في ظل هيمنة إيران وحزبها في لبنان، تقديم أداء حرفي متوازن وحتى صوري، على الأقل بالنسخة التي تناقلتها حكومات بغداد، لمقاربة علاقة توازن ومداراة مع دول لطالما ارتبطت تاريخيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا مع لبنان.

والأزمة الراهنة التي ارتقت إلى حدّ القطيعة بين دول الخليج وبيروت لا ترتبط بحدث تصريحات وزير الإعلام اللبناني الحالي، وهي تصريحات أدلى بها قبل أسابيع من تعيينه، بل تتعلق بنمط رسمي عبّر عنه رئيس الجمهورية الحالي، ثم طوّره صهره (رئيس تياره الرئيس السياسي) والذي أفصح عنه لدى المنابر العربية والدولية حين شغل منصب وزير الخارجية. ينعطف الأمر أيضا على سلسة مواقف سياسية وإعلامية وأحداث أمنية (أبرزها تهريب المخدرات) لم تتوان عن التعبير عن عداء للسعودية واستخفاف بتحذيراتها وهواجسها، ولم تفصح عن عدم التناقض الجديّ مع الحملة الممنهجة، بمناسبة وبدون مناسبة، التي درج أمين عام حزب الله على شنّها ضد الرياض ودول الخليج.

في الحالة العراقية تبرّعت الشخصيات الحكومية الأكثر ولاء لإيران في طرق باب الرياض لفتح صفحات الودّ والتعاون بين العراق والسعودية من حكومة إياد علاوي إلى حكومة مصطفى الكاظمي. حتى أن نزوع تلك الشخصيات الموالية لطهران (حالة قاسم الأعرجي مثالا) لادعاء استقلالها عن طهران، كان يحتاج إلى توجّهات، ولو شكلية، في استخدام التعابير واللغة على الأقل، التي تعبّر عن إرادة في تطبيع علاقات العراق بالسعودية ودول الخليج. أما في الحالة اللبنانية فتصرفت حكومات بيروت على نحو مرتبك مرتجل في إدارة علاقة لبنان مع الخليج وكأنها عيب يمارس في الظلام، على النحو الذي يبقي تلك العلاقة التاريخية تفصيلا روتينيا داخل سياق يأخذ توجهات إيران بعين الاعتبار ويحرص بإفراط على عدم التميّز عنها. 

وفق سياسة "النأي بالنفس" المشؤومة والمزيفة اتخذت السياسة الخارجية اللبنانية داخل المنظومة العربي وجامعة الدول العربية، كما داخل المنظومة الدولية ومنظمة الأمم المتحدة، المواقف التي تجاري تماما مصالح طهران في القضايا مثار الخلاف والتي تكون إيران جزءا منها. وحتى المواقف التي تؤيد فيها بيروت الدول الخليجية أتت بروتوكولية دبلوماسية لا تغضب طهران أو تحظى بتفهمها ورعايتها. 

هناك مشكلة مع إيران نعم. لكن هناك وضاعة حكومية لبنانية في الامتناع عن تقديم وجبة غير مستفزّة لدول الخليج على الرغم من علم كل الدول العربية بمدى سقوط قرار لبنان ضمن دائرة الحكم في إيران. فأن يتم تعيين وزير خارجية يكتشف أن "البدو" تهمة تكال إلى دول الخليج بما يعبر عن حقد ثقافي وتعصّب استعلائي وجهل سياسي خبيث، فذلك أن هناك عداء لتلك المنطقة تستدعي تعيين هذا النوع من المخلوقات لقيادة السياسة الخارجية للبلد. وأن يتم تعيين جورج قرداحي وزيرا للإعلام ناطقا رسميا باسم الحكومة على الرغم من مواقفه السابقة المزرية والمعادية للرياض لصالح دمشق وطهران، فذلك إثم تمّ ارتكابه مكافأة له، وعن سابق تصور وتصميم، لا بل لا يقصد به إلا استفزاز الرياض وحلفائها.

موقف السعودية ودول الخليج حيال السقوط اللبناني ليس موجهاً ضد طهران، بل موجّه بالشكل والمضمون والتوقيت ضد بيروت ونخبها السياسية والحاكمة. يتجادل الخليجيون مع إيران بأشكال متعددة مختلفة، بما في ذلك السياسي والإعلامي والأمني والعسكري والاقتصادي منذ أن أقام روح الله الخميني جمهوريته الإسلامية في ذلك البلد عام 1979. وما حرب اليمن إلا إحدى الواجهات الحديثة التي تسخدمها إيران ضد اليمنيين أولا (وهذا ما لا يفقه به وزير الإعلام الحذق) وتهدد بها السعودية وكل منطقة الخليج. ولئن يقف العالم مرتبكاً متعثراً عاجزا عن اجتراح أو فرض أي حلّ ينهي تلك المأساة، فإن موقف الوزير اللبناني، حتى لو قاله قبل التعيين، يعبر عن نية سيئة لدى حكومة بيروت التي عينته في هذا المنصب للتبرّع في التدخل في شأن عربي لصالح الرواية الإيرانية. ناهيك من أن هذا الوزير وكل الطبقة السياسية في البلد لا يملكان ترف المحاضرة بالدروس وهم الذي يقودون دولة فاشلة بمختلف المعايير. 

مشكلة الخليج في بيروت ليست مع طهران. فالعلاقة مع إيران قد تزداد تعقيدا أو تنزع نحو الانفراج وفق تطور المشهدين الدولي والإقليمي، على الأقل بالطابع الذي تمثله فيينا في استضافتها لمفاوضات الاتفاق النووي أو ذلك الذي تمثله بغداد برعايتها للحوار بين السعودية وإيران. والأرجح أن المشكلة تكمن بالدور الذي ما زال ساسة لبنان يلعبونه، وهو أكبر من حجمهم وحجم بلدهم، في الإفتاء بقضايا العالم والصراعات الأممية بحيث بات البلد مصدّرا للمقاتلين لتسوية النزاعات من أفغانستان إلى اليمن مرورا بالعراق واليمن، وهو الذي يستجدي من العالم أجمع، ومن دول الخليج خصوصا، عونا ومددا ينتشل البلد من مصاب تاريخي لا سابق له. 

تستنهض الأزمة أصحاب الكرامة الذين انتخوا دفاعا عن استقلال لبنان. ينسى هؤلاء _وهم لا ينسون أبدا- أن رئيس الجمهورية والحكومة والوزراء داخلها (بما فيهم الوزير المصون) هم نتاج قرار طهران وحزبها في لبنان، وأن غياب استقلالهم سببه هذا الارتهان المعيب للحاكم في إيران. فخففوا عنا مواويلكم الناحبة العرجاء.