كثيراً ما يجري الحديث عن دور النخبة المثقفة أو المثقفين أو الطبقة المثقفة على أنها المجموعة المسؤولة عن قيادة المجتمع أخلاقياِ وثقافياً، وتوفير الحصانات له لمنعه من التدهور الثقافي والأخلاقي من خلال التزامها بنشر الوعي بين أفراد المجتمع.
وعلى أساس الفشل في تأدية هذا الدور المفترض، يوجه النقد "للمثقفين" أو "النخبة" على أنها متقاعسة أو مقصرة أو غارقة في نرجسيتها وصراعاتها.
مثل هذا الفهم للمثقف أو النخبة إشكالي، وجذره استبدادي، وينتمي إلى فهم طبقي، ارستقراطي وإقطاعي، للمجتمع وعلاقات الأفراد فيه.
النخبة القائدة ثقافياً أو مُعلمة "الجماهير" هي في أصلها التاريخي نمط من التفكير ينتمي للأنظمة الشمولية، كانت بدايته في القرن العشرين بمفهوم الحزب الطليعي القائد التي جاء بها فلاديمير لينين في إطار دعوته إلى تفعيل الماركسية في روسيا السوفيتية عبر الحزب الشيوعي الذي ينبغي أن تندرج فيه النخبة المثقفة كي تُمثل عبره هموم ومصالح الكادحين من فلاحين وعمال.
كانت النتيجة المنطقية لمثل هذا الاندراج هو إلحاق الثقافة بالسياسة، وكما حصل في العهد الطويل لجوزيف ستالين، أصبح الساسة هم الذين يقررون أشكال ومحتوى الثقافة التي ينبغي أن تتعلمها "الجماهير" وعلى المثقفين أن يروجوا لها.
تكرر الأمر، مع بعض الاختلافات الطفيفة، في تجارب شمولية أخرى كما في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية.
في المشرق العربي، اقتربت الناصرية في أعوام حكمها في مصر من هذا النموذج، لكن التجلي الأدق له كان في الأنظمة البعثية الحاكمة، خصوصاً في عراق صدام حسين.
لكن حتى في الأنظمة الديمقراطية وغير الاستبدادية التي يتمتع المثقف فيها بحرية التفكير والإنتاج المعرفي بعيداً عن السلطة السياسية الحاكمة، ليس ثمة وجود لفكرة النخبة المثقفة التي تُعلم الشعب أو تقوده أخلاقياً، إذ أن هذه الفكرة تقوم على افتراضات مغلوطة عن الاتفاق والتشابه والانسجام والهرمية بخصوص الثقافة والمثقفين والمجتمع.
فأولاً، ليس ثمة اتفاق بخصوص معنى الثقافة ومن هو المثقف، وثانياً، افتراض أن المثقفين مجموعة واحدة منسجمة فكرياً تتفق على أفكار معينة على أنها صحيحة وجديرة بالتعليم هو نفسه افتراض مغلوط، فالثقافة نفسها تقوم على التنوع والاختلاف والبحث الدائم في معنى الأشياء وتغير دلالاتها حسب اختلاف السياقات وليس على الانسجام والاتفاق الذي يعني ذبولها وموتها.
على سبيل المثال، في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية وتخلص الكثير من الدول العربية من الانتداب الأوروبي، برزت فكرة الوحدة العربية ومسميات كالوطن العربي والأمة العربية وهي الفكرة التي التف حولها الكثير من المثقفين والمبدعين والساسة وسائر الجمهور. كان معارضو هذه الفكرة القليلون يسمون بالانعزاليين، وهو توصيف سلبي في حينه يقترب من الشتيمة، فيما كان توصيف "وحدوي" المعاكس له في المعنى إيجابياً.
الاتحاد بوطن عربي واحد ينهي "التجزئة" المفروضة خارجياً كان يمنح الإحساس بالقوة والقدرة على الرد على عالم غربي ظالم، المستعمر السابق، اعتبره العرب "المُجزؤون" مستمراً بسعيه للهيمنة عليهم اقتصادياً وسياسياً وثقافياً بعد أن كان يسيطر عليهم عسكرياً ويديرهم سياسياً. من هنا كان صعود القومية العربية كأحد أشكال التضامن العربي رداً على هذا الاستهداف الغربي المفترض.
في التسعينات، خصوصاً بعد المأزق العربي بغزو عراق صدام للكويت وقيام الغرب "الطامع" بتحرير الكويت من مُحتلها العربي العراقي، تراجع كثيراً إغراء القومية العربية و"حلم" الوحدة العربية. ارتبط الجزء الآخر من هذا التراجع بفشل القومية العربية تاريخياً في عرض نموذج حكم إنساني ناجح محلياً، إذ أصرت القومية العربية على أنظمة حكم عسكرية تفاوتت في درجات القمع والكبت.
منذ عقد التسعينات فصعوداً، هيمنت تدريجياً فكرة أخرى معاكسة على الحيز العام، هي الفكرة الوطنية، التي كانت تسمى سلباً "القطرية" في السابق وملخصها هو بناء الدولة الوطنية بعيداً عن المطامح الوحدوية، لتصبح الفكرة القومية دليلاً على غلبة الأيديولوجيا على الواقعية.
إذن، الأفكار التي تهيمن على العقل الجمعي ليست هي صناعة مجموعة مثقفين يعيشون في برج عاجي بعيداً عن المجتمع وفوقه، وإنما هي نتاج صيرورات مجتمعية عميقة تسحب معها الكثير من المثقفين أحياناً، كما في انجراف مثقفين في موجات الطائفية والعنصرية وشيطنة الآخر المختلف عندما يهيمن الخوف على مجتمع ما. مهمة الثقافة، وبالتالي المثقف الحقيقي، هي التنوير، أي الإيمان بقيم التنوير ونشرها وهي قيم إنسانية بطابعها، وتقوم على الإقرار غير المشروط بفردانية المرء وضرورة حصوله على الحقوق الطبيعية والقانونية والامتيازات التنافسية المشروعة التي تمكنه من تشكيل خياراته في الحياة وعيشها على النحو الذي يشاء ما دامت هذه الخيارات لا تشكل خطراً مادياً على المجتمع ولا تتعدى على حقوق الآخرين وامتيازاتهم المشروعة. التنوير بالضرورة مرتبط بالحرية، أي بالدفاع عن حق الانسان في أن يختار بعيداً عن القسر الذي يمارسه المجتمع والسلطة.
في مجتمعات، كمجتمعاتنا الشرقية، ترتاب بالفرادنية حيث يُهيمن عليها صوت المجموع وقيمه ويُقمع الاختلاف باسم الأصالة، ويُحارب التنوع باسم الخوف من الانحلال، تُصبح مهمة المثقف الوقوف ضد الصوت العالي للمجتمع وتأكيد حق الافراد بأن يصنعوا ذواتهم الخاصة على النحو الذي يرضيهم ما داموا لا يتجاوزون على حقوق الآخرين.
في عشرينيات القرن الماضي، مع مجيء الانتداب الأوروبي إلى المشرق العربي بعد الحرب العالمية الأولى، تبنت الدول الوطنية الناشئة بدعم هذا الانتداب افكاراً حداثوية جريئة مثل تعليم البنات في مدارس حكومية على أساس التعليم المدني.
حينها قاوم معظم المجتمع مثل هذا التعليم واعتبره انحطاطاً أخلاقياً سيؤدي إلى إفساد أخلاق المرأة وبالتالي تفكك المجتمع. اليوم، بعد مرور قرن على هذه التجربة الرائدة، أصبح تعليم المرأة قيمة عامة متفق عليها وجزءاً أساسياً من ثقافة المجتمع.