كم هو مدهش أن يغدو الإنتماء الديني، أو الأيديولوجي، أو السياسي، أو العرقيّ، هو المقياس الذي يحدّد علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، بحيث يعكّر صفو هذه العلاقة أو يوطّدها، بدل أن يكون موقف الإنسان الأخلاقي هو القياس في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان.
فتجربة عالمنا لم تبرهن على إفلاسها الأخلاقي إلّا بسبب اعتمادها حزمة الإنتماءات السالفة حجّةً في تحديد موقف ذي هوية وجوديّة بطبيعته، ليُنَصّب حَكَمَاً على جنس العلاقة، المفترض بالسليقة أن تستعير بعداً أخلاقيّاً، فإذا بها تنحشر حشراً في قمقم مزيّف، لم يمتّ بصلة يوماً لأصالتنا، انتدبناه مرّة من واقعٍ يقع خارجنا، وسلّمناه زمام أمرنا، ليصير في دنيانا دليلاً على وجودنا، فإذا به يتحوّل في نشاطنا طاغيةً يُملي علينا مصيرنا، ويضع الناموس في علاقاتنا، حتى إذا أخللنا بالعهد، لن نعدم أن نجد أنفسنا ضحايا لعداواتٍ لم تخطر لنا على بال، لا لشيء، إلّا لأننا لم نحكّم إرادتنا، ونمارس حريّتنا في اختيار خلّاننا، أو كل ذوي قربانا، إنطلاقاً من مزاياهم الإنسانية، أو خصالهم الأخلاقية، أو مواهبهم الجمالية، وليس تلبيةً لنداء القناعات الزائلة، أو الانتماءات الفانية، كالإنتماء الديني، أو العرقي، أو السياسي، أو الأيديولوجي، أو ما شابه من سفسافٍ، برهنت التجربة البشرية كم هو أضغاث أحلامٍ نستمرئها، فتتمادى لتتحوّل بالإدمان، أفيوناً.
هذا الإفيون لا يكتفي بأن يغرّبنا عن شعرية كل علاقة إنسانية، في حال استبعدنا من المعادلة اعتماد البُعد الانساني، المجبول بالحسّ الأخلاقي، لنستبدله بالمقياس المستقدَم من بيئة تقع خارج نطاق الوجود، معادية لطبيعة هذا الوجود، لنكتشف اغتراب الحميميّة، باغتراب الشعريّة، في العلاقة.
ليس هذا وحسب، ولكن سنكتشف أن وجودنا كلّة مهدّدٌ بالاغتراب، لأن غياب الحميميّة في حياتنا، الناجم عن غياب الروح الشعرية، إنّما هو رهين غياب مبدأ أعظم شأناً بما لا يُقاس، وهو: اغتراب الحرية!
اغتراب قيمة حاسمة في وجودنا على أرض الواقع الانساني كالحرية يطرح سؤالاً عن حقيقة الموقف من الحزمة السالفة التي يسوّقها عالمنا في واقعنا كقدس أقداس، ويعتمدها مقياساً لعلاقة الانسان بأخيه الانسان. أي أنه السؤال المحرج الذي يشكّك في حقيقة الولاء للإنتماء الديني أو العرقي أو الأيديولوجي أو السياسي، وتقديمه على العلاقة الانسانية في كافة أبعادها، سيّما البعد الشخصي. وهو ما يعني أن الفرد الذي يعتنق في مسلكه الدنيوي اليومي أحد أقطاب هذا الافيون هو في الواقع رهينة. رهينة لأنه لا يملك حرية الإرادة لا في الاختيار، ولا حتى في التعبير، ما لم يستجر بتلابيب ذخيرته الأفيونية التي اعتمدها ربّاً في واقع علاقات تكفّ أن تكون مجرد نزهة دنيوية، ولكنها تكتسب جوهراً يترجم موقفاً من الوجود. وهو ما يعني ارتضاء التخلّي المجّاني عن أعظم هبة اعتدنا أن نتغنّى بها دون أن نفيها حقّها وهي: الحرية.
بالوسع، بالطبع، التسامح مع حرية اعتناق المعبود حتى لو كان هذا المعبود وثناً ملفّقاً من مثال سوّقناه لأنفسنا، تحقيقاً لسعادتنا، ولكن تسامحنا يبقى رهين استعدادنا التضحية بقناعاتنا المسبقة، في حال تحوّلت تهديداً للنيل من عفويّة علاقاتنا الإنسانية، في وجودٍ لا نسمريء له طعماً بدون حضور شريك لنا، لا غنى لنا عنه في واقعنا، وهو ما لا يتحقق في ظلّ استمرار تعقّبنا للشبح الذي اعتمدناه في مسلكنا مقياساً لاستمرار علاقاتنا بأخوتنا.
فماذا ستعني تضحيتنا بعصبيّتنا، وقبول الآخر في رحابنا رغم أنف القناعة الدينية أو العرقية أو الأيديولوجية أو السياسية؟
التضحية في هذه الحال ستعني التخلّي عن نزعة صارت في ظلّ هيمنة هذه الأيقونات يقيناً، وهي: احتكار الحقيقة!
فالهشاشة إذا كانت نبضاً يسري في دم الإنسان، ويهدّد علاقة الانسان بأخيه الانسان، مغذّياً الوسوسة الملتبسة التي لا تتردّد في أن تتمرّد على الناموس، وتنصّب الإنسان عدوّاً لأخيه الإنسان، لن تقنع بمحو حسّ الحميميّة في النشاط الاجتماعي، ولكنها تحتفي بالتصعيد الذي يستأنس بالذئب إذْ عوَى، في حين ترتعد فَرَقاً من صوت إنسانٍ يصيح، كما اعتاد أن يتغنّى الناسك في صومعته العاجيّة.
فالأحجية كلّها تسكن مبدأ «الإحتكار» الذي يتجاهل كم نحن أضياف في واقع هذا الوجود، الذي لم ننزله لكي نمتلكه، ولكن لكي نسدّد فيه فاتورة دَيْن، لأننا جرّبنا كيف يتفسّخ ويتمسّخ ويتحلّل كل مبدأٍ دنّسناه بالملكيّة، فكيف إذا كان المعني بالإحتكار هنا ليس حرف الوجود، ولكنه حقيقة هذا الوجود؟
ما سيوقفنا هو طبيعة الإحتكار. فهو ليس مجرد امتلاك. ليس مجرد استلام تمّ بسبيلٍ سلميّ، ولكنه استيلاء. أي وجود عنصر عنف في عمليّة الإمتلاك. أي أنه ضربٌ من غصب. والغصب ليس مجرد استحواذ على موضوع امتلاك، ولكنه استباحة. إنتهاك لحرمة. وعندما يكون موضوع الملكيّة الاحتكارية هو الحقيقة، فإن سطوة الخطيئة سوف تتضاعف، لأن الحقّ هو الضحية هنا.
وهكذا تستوي وصفة التجديف. التجديف في حقّ الحقّ قبل أن يكون الإثم مجرد تجديف في حقّ خلق الحقّ. خَلقٌ وُجدوا في الوجود ليتعارفوا، وأن نعترف لهم بالتعارف يعني أن نعترف لهم بالتحابب. تحاببٌ رهين تلك العلاقة العفوية، الإنسانية، المشفوعة ببراءة الفطرة، المجبولة لهذا السبب بالروح الوجدانية، التي تتنفّس برئة الشعر، وتعتمد الفرح صلاةً، مستنكرةً، في هذا العيد، تقنين الأحاسيس الإنسانية، في صيغة غريبة عن واقع القبيلة الإنسانية، بوحيٍ من نفعٍ مريب، لم يوجد إلّا ليدنّس واقعاً نلناه لا على سبيل الملكيّة، ولكن على سبيل الإعارة، بمهلةٍ محدودة الأجل!