بعد يومين ستجري الانتخابات العراقية "المبكرة" في إطار مشهد جديد ولافت يعكس الأزمة العميقة التي يمر بها البلد.
فلأول مرة تصطف كامل طبقة الساسة العراقيين وراء الانتخابات، برغم جولات انسحابهم منها ثم عودتهم إليها لاحقاً وإعلانات غضبهم الأخلاقي المعتاد على نظام سياسي هم صنعوه واستفادوا منه ويديمون فشله ويرفضون إصلاحه، فيما ينقسم المجتمع على نحو حاد بخصوص جدوى هذه الانتخابات بين داعين للمشاركة فيها وآخرين يدعمون مقاطعتها.
ورغم الخلاف الشديد بين دعاة المشاركة والمقاطعة، فثمة أمر واحد ومهم يجمع الاثنين، باستثناء الجمهور الحزبي المؤمن، المحدود عددياً والذي يمثل أقلية صغيرة في عموم المجتمع. إنه اليأس من الطبقة السياسية الحاكمة وإحساس المجتمع باستعصائها على إصلاح نفسها، وضرورة التخلص منها من أجل مستقبل أفضل للبلد.
يكمن الاختلاف بين المشاركين والمقاطعين في الوسائل فقط، وليس في الهدف، ففيما يحاول دعاة المشاركة استخدام صناديق الاقتراع لإخراج هذه الطبقة السياسية من مواقع الحكم والهيمنة، وإن على نحو تدريجي، يطالب الفريق الآخر بمقاطعة الانتخابات لحرمان أحزاب هذه الطبقة من الشرعية الشعبية، من دون توضيح ماهية الخطوات المقبلة لإنهاء هيمنة هذه الطبقة على الدولة.
لحد الآن ليس واضحاً أيهما يمثل غالبية المجتمع، المشاركين أو المقاطعين، فالتقديرات بخصوص نسبة المصوتين المحتملين تتباين على نحو كبير، فبعضها يدفعها الى أكثر من 60 بالمئة، فيما تخفضها تقديرات أخرى إلى نسبة تتراوح في العشرينات.
العامل الحاسم في هذه الانتخابات هو نسبة المشاركة، فارتفاع كبير في نسبة المشاركين، في إطار جمهور غاضب، سيضعف فرص الطبقة السياسية الحاكمة في السيطرة على البرلمان المقبل، فيما تؤدي نسبة مشاركة منخفضة إلى زيادة فرص هذه الطبقة في الحصول على شرعية انتخابية جديدة.
كانت أعلى نسبة مشاركة انتخابية في عراق ما بعد صدام في انتخابات ديسمبر 2005 لاختيار أول برلمان على أساس الدستور الذي أُقِرَ في استفتاء شعبي قبل هذه الانتخابات بشهرين، إذ شارك فيها نحو 67 بالمئة من الذين يحق لهم التصويت.
انخفضت هذه النسبة تدريجياً في الانتخابات التالية (62 بالمئة في انتخابات 2010، ونحو 60 بالمئة في انتخابات 2014) وصولاً إلى انتخابات 2018، التي شهدت أدنى مشاركة، فبحسب إعلان مفوضية الانتخابات حينها، بلغت نسبة المشاركة أكثر من 44 بالمئة، بالرغم من وجود شكوك جدية بصحة هذا الرقم (على الأرجح كانت نسبة المشاركة أقل من 20 بالمئة من مجموع الذين يحق لهم التصويت).
في هذه الانتخابات، يبدو أن المفوضية قررت استباق احتمالات المشاركة المتدنية، لتعلن في قرار طابعه سياسي واضح ويمثل تشويهاً حقيقياً لكيفية حساب عدد المشاركين، أن النسبة المئوية للمشاركة ستُحسب على أساس عدد الذين استخرجوا بطاقات انتخابية، وليس على أساس عدد الذين يحق لهم التصويت.
باستثناء المفاجآت، تشير تقديرات تبدو منطقية إلى أن نسبة المشاركة في انتخابات يوم الأحد ستتراوح بين 30 إلى 40 بالمئة.
إذا صحت هذه التقديرات، مع افتراض أن نحو نصف المشاركين يمثلون جمهوراً تقليدياً منظماً يُصوت حزبياً أو يسهل استدراجه نحو تصويت حزبي عبر الواجهات المستقلة شكلاً والحزبية مضموناً، سيعني هذا استمرار هيمنة الأحزاب التقليدية الحالية على البرلمان المقبل، لكن بعدد مقاعد أقل من مقاعدها في البرلمانات السابقة.
لكن التحدي الأكبر لا يكمن فقط في نسبة المشاركة وحدها، وإنما أيضاً في شحة الخيارات الانتخابية الجديدة والمعارضة للأحزاب التقليدية المهيمنة على السلطة، بسبب مقاطعة معظم قوى الاحتجاج التشريني لهذه الانتخابات، إذ لم ترشح الا حركتان احتجاجيتان لخوض هذه الانتخابات هما "حركة امتداد" وحركة "نازل آخذ حقي"، حيث يبلغ عدد مرشحي هاتين الحركتين أقل من 50 مرشحاً في كل البلد. ثم هناك مرشحون أخرون مستقلون أو يمثلون حركات معارضة تقليدية سابقة على حركة الاحتجاج مثل التحالف المدني الديمقراطي.
في أحسن التقديرات، يشكل المرشحون المستقلون والمعارضون الحقيقيون نحو ثلث العدد الإجمالي للمرشحين المتنافسين في هذه الانتخابات. حتى وإن فاز كل هؤلاء بمقاعد برلمانية، وهو أمر يكاد يكون مستحيلاً، فلن يكون بمقدورهم تشكيل أغلبية تدير البرلمان المقبل.
في ظل هذا المشهد المتجهم انتخابياً لقوى الإصلاح، فإن السيناريو الأفضل لها هو فوز مجموعة من مرشحيها وقدرتهم على تشكيل جبهة معارضة برلمانية متماسكة، بين 30 إلى 50 عضواً، تقدم نموذجاً إصلاحياً حقيقياً في العمل البرلماني المُعارض والمسؤول.
يقوم هذا النموذج على رفض مبدئي وصلب للدخول في صفقات المحاصصة والفساد والتوافق، وممارسة جدية للرقابة النيابية تُعري حالات الفشل المؤسساتي والتواطؤ السياسي لتغطيته وتواجه الإقطاع الحزبي المتمرس في مؤسسات الدولة، فضلاً عن تقديم مشاريع قوانين إصلاحية تُقنع الجمهور أن هناك قوة برلمانية تمثل مصالحه فعلاً وقولاً وتكاشفه بالحقيقة دائماً.
ومع تواصل الضغط الاحتجاجي والشعبي من خلال المجتمع على أحزاب الطبقة السياسية المتنفذة، يمكن بالفعل بلورة تيار سياسي- شعبي منظم ومؤثر يصنع فارقاً واضحاً في أي انتخابات مقبلة، ويمكنه، بمرور الزمن، أن يقدم بديلاً عن الطبقة السياسية الحالية.
يحتاج مثل هذا السيناريو لنجاحه تضافر عوامل كثيرة، الأهم بينها هو تجاوز الآفتين القاتلتين اللتين افشلتا كل أنواع المعارضة السياسية الجادة بعد 2003: التنافس الشخصي حد الصراع بين المعارضين ورفض مأسسة العمل المعارض على أسس ديمقراطية.