لم تجد فكرةُ المساواة النّخبَ الفكريّة والسّياسيّة التي تنافح عنها، في التّاريخ الغربيّ الحديث والمعاصر، نظيرَ مدافعةِ النّخب اللّيبراليّة عن فكرة الحريّة، على الرّغم من أنّ الحريّة نفسَها لا يستقيم لها أمرٌ أو تتأمّن لها ضمانات من دون مساواةٍ قانونيّة وسياسيّة.

ومع أنّ فرنسا الثّورة أحلّت مبدأ المساواة محلّ القلب، وهندستْ نظامها السّياسيّ والاجتماعيّ عليها، إلاّ أنّ التطوُّرات اللاّحقة طوّحت بهذا المبدأ حتّى في المجتمعات الغربيّة التي قامت فيها نظمٌ سياسيّة على الفكرة الجمهوريّة، وعلى قاعدة مركزيّةِ مسألةِ السّيادة الشّعبيّة وظهورها على مسألة الحقوق والحريّات. هكذا أُهْمِلت وزوحِمَت بغيرها من المبادئ، ولم تعد من أساسيّات الإيديولوجيا اللّيبراليّة؛ هذه التي رفعت من مَقام مبدأ الحريّة والفرد بحيث عَلاَ مَقامَ السّيادة والشّعب.

وَضعتِ الفكرةُ الدّيمقراطيّةُ اللّيبراليّةُ مبدأَ الحريّة في مقابل مبدأ المساواة، فرأَتْ إلى الأخيرة بوصفها إهداراً للحريّة أو انتقاصاً منها على الأقل، بل لم تمنع نفسَها من حسبان المساواة غطاءً جديداً للاستبداد؛ ولكن لاستبدادٍ من نوعٍ جديد تخفيه آليات ديمقراطيّة. أوّل من دشّن هذه النّظرة إلى المساواة من المفكّرين هو أليكسي دو توكفيل في النّصف الأوّل من القرن التّاسع عشر؛ وهو مَن فتح الباب أمام ميلاد الجِيل الرّابع من اللّيبراليّة ممثَّلاً بجون ستيوارت مِل. ولا شكّ في أنّ إقامةَ توكفيل الفرنسيّ في الولايات المتّحدة الأميركيّة، ودراسته العميقة نظامَها وتجربتَها السّياسيّيْن تركا بصماتهما على تفكيره وتوجّهاته، وكرّسا الاعتقاد لديه بنموذجيّةِ تجربتها السّياسيّة؛ نموذجيّة ترتفع بها إلى مستوى المعياريّة.

والحقّ أنّ قارئ سِفره المرجعيّ في الفكر السّياسيّ "الدّيمقراطيّة في أميركا"، تستوقفه تناقضات شتّى يقع فيها المؤلّف، وتتوزّع فيها أحكامُه على النّظام السّياسيّ الأميركيّ بين حدّيْن نقيضيْن: بين تبجيلَ مَقام الحريّة في هذا النّظام ومؤسّساته وفي المجتمعَ الأميركيّ، وإبداء التّقدير الكبير لعلاقات المساواة التي تنتظم المجتمعَ وتشرِّعُها القوانين. ولا يملك قارئ الكتاب أن يلْحظ ما في تحليله من تناقضٍ إلاّ متى عاد إلى كتابه الثّاني: "النّظام القديم والثّورة"، الذي كرّسه لنقد أخطاء الثّورة الفرنسيّة، وصدر بعد صدور كتابه الأوّل عن أميركا. في هذا الكتاب، فقط، يتبيّن أنّ تردُّده بين حدّيْ المساواة والحريّة - الذي يبدو متوازناً في تحليل النّظام الأميركيّ - يصبح تناقضاً صارخاً من وِجهةِ مقاربةِ كتابه الثّاني عن فرنسا!

مَن يُدقِّق في قراءة النّصّ يلْحظ أنّ ما يبدو تناقضاً في تحليلات توكفيل ليس كذلك في الواقع؛ لا لأنّه أقام موازنةً بين المساواة والحريّة في دراسته النّظامَ الأميركيّ، بل لأنّه لم ينتقد المساواة في التّجربة الفرنسيّة إلاّ لسببِ إهمال الحريّة وتجاهُلها. هذا يعني أنّه لو كان للحريّة مكانةٌ في النّظام السّياسيّ الفرنسيّ لَمَا التفت توكفيل إلى المساواة وأنْحَى عليها بالنّقد. في غياب الحريّة، إذن، ما كان يمكن توكفيل غير أن يَعْزُوَ غيابَها إلى رسوخ علاقات المساواة، وإلى عدم تشبُّع الشّعب الفرنسيّ بقيمة الحريّة، بل إلى مسؤوليّة المواريث التّاريخيّة، الدّولتيّة والمجتمعيّة، في إضعاف الشّعور الجمْعيّ بها.

المساواةُ، إذن، نقضٌ للحريّة لأنّها - عند ناقديها - تُنَمِّط النّاس في قوالب عامّة تهدر فرديّتهم، وتودي بالاستقلاليّة الذّاتيّة للفرد. هكذا لا يعود الفرد يجد نفسَه إلاّ في الآخرين؛ في أشباهه الذين يتماثلون معه. عند هذا النّقد، تكون اللّيبراليّة قد انقضّت على مبدأ المساواة وواجهتْه بالحريّة. منطقُها الاقتصاديّ المصلحيّ يقول ذلك؛ خاصّةً في حقبة جديدة من الرّأسماليّة كانت هذه تَضيق فيها بالدّولة والمنافسة معاً، فتجنح نحو شكلٍ جديدٍ من الاحتكار سيأخذها إلى طورها الإمبرياليّ بدءاً من ثمانينيّات القرن التّاسع عشر. المنطق الاقتصاديّ يقول إنّ في المساواة تضييقاً على المبادرة الحرّة، وكَبْحاً للاحتكار الذي لم يعد من أفقٍ فعليّ للرّأسماليّة غيره. في هذه الشّروط كانت تنمو ليبراليّةٌ أخرى من نوعٍ جديد هي التي ستتنزّل إيديولوجيا لهذا الطّور الحديث من الرّأسماليّة.

ومن المفارقات الكبيرة أنّ مبدأ المساواة الذي شدّدت عليها اللّيبراليّة الثّوريّة، في القرن الثّامن عشر، قبل أن تنقلب عليه ليبراليّة القرن التّاسع عشر، لم يعُد يجد من يدافع عنه من اللّيبراليّين في القرن العشرين، بل بات مطلباً تحمله القوى المعارضة لِللّيبراليّة في وجه اللّيبراليّة التي همّشتْه ولم تُطبِّقه - حين طبّقته - إلاّ في حدود دنيا لم تشمُل مناحي الحياة الاجتماعيّة كافّة، بل غالباً ما تركتْه مجرّد شعارٍ عامّ ونصوصٍ لم تجد طريقها إلى التّفعيل الاجتماعيّ والسّياسيّ. في الوقت عينِه، كان دعاة الاشتراكيّة قد بدأوا يعيدون النّظر في الحدود الضّيّقة لمفهوم المساواة، ذاهبين إلى التّشديد على الأبعاد الاجتماعيّة المغيَّبَة منها.