ها قد هب فرسان الدجل والخداع في العراق للانتصار للحق الفلسطيني، الذي اغتُصب في مؤتمر صغير عُقِد في أربيل وحضره عراقيون مغمورون، قيل إنهم طالبوا بالتطبيع مع إسرائيل!
انتفض هؤلاء الفرسان للشرف المهدور والحق المغصوب، وأطلقوا التصريحات النارية والبيانات الحارقة بأنهم يرفضون التطبيع مع "الكيان الصهيوني"، وأنهم سوف يعاقبون أولئك العراقيين الذين عبّروا عن آرائهم في ذلك المؤتمر الغامض، الذي لا يعرف أحد حتى الآن من الذي نظمه أو دعا إليه أو موَّله، وما هي أهدافه، باستثناء تقديم فرصة لمن عُرفوا بالدجل والخداع والسرقة كي يتشدقوا بالدفاع عن فلسطين.
وكأن هذا المؤتمر قد جاء فرصة ذهبية لهؤلاء المفلسين المنبوذين في بلدهم، خلال فترة الانتخابات، كي يبرزوا عضلاتهم ويمارسوا الخداع من جديد، باسم فلسطين هذه المرة، كما مارسوه باسم الإسلام ومذاهبه وأئمته ومقدساته، للبقاء في الصدارة والاستمرار بنهجهم السابق المبني على السرقة والجريمة والاحتماء بدولة معادية.
لم يتردد هؤلاء في انتهاك القوانين والقيم الوطنية والدينية والإنسانية في بلدهم، والاعتداء على أبنائه وسرقة أموالهم طوال 18 عاما، ولم يترددوا بالمتاجرة بأقدس المقدسات في سبيل مصالحهم الشخصية والعائلية، ولا في الكذب على أتباعهم وخداع الناس والتمثيل عليهم خلال هذه الحقبة المريرة من تأريخ العراق الحافل بالمرارة والأذى.
لم تتحرك حمية هؤلاء لمقتل مئات الشباب العراقيين في عمر الزهور خلال ستة أشهر في ساحات بغداد والبصرة والناصرية وبابل وكربلاء والنجف، وكل ما فعلوه أنهم عبَّروا عن آرائهم في كيفية إدارة بلدهم، ولم يكترثوا لمئات المخطوفين وآلاف الجرحى، من النساء والرجال، ولا لملايين الأرامل والأيتام، ولا للفقر المدقع الذي يضرب أطنابه في بلد ثري كالعراق، ولم يستفزهم منظرُ آلاف الأطفال والنساء، الباحثين في أكوام القمامة عما يمكن أن يحصلوا عليه ليبيعوه ويشتروا بثمنه ما يسد رمقَهم.
لكنهم انتفضوا واستُفِزوا، أو على الأقل هذا ما أرادونا أن نصدقه، لانعقاد مؤتمر متواضع ومحدود، لا يقدم ولا يؤخر، عُقِد في أربيل ودعا إلى السلام أو التطبيع مع إسرائيل! في أي دولة يتوفر فيها الحد الأدنى من الحريات المدنية، يعتبر عقد المؤتمرات والتعبير عن الآراء، أمر طبيعي ومتاح للجميع، أما مسألة إقامة العلاقات مع الدول الأخرى، فهذه مسائل تقررها الحكومات فقط، وليس الأفراد، مهما بلغ عددهم.
طالب أحد هؤلاء "المنتفضين للشرف المهدور"، وهو معروف بإثارة النعرات الطائفية بين أبناء بلده وسرقة المال العام وتوزيع المناصب العامة على أقاربه وأتباعه، بمعاقبة المشاركين في المؤتمر، الذين لم يتعرفوا على أحد منهم سوى امرأةٍ تعمل موظفة متواضعة في إحدى الوزارات، كانت قد التقطت صورة لها مع أحد المسؤولين الهامشيين السابقين، وشيخِ عشيرةٍ متقلب، كل يوم له موقف مختلف.
لا يوجد منصف على وجه الأرض لا يتعاطف مع الشعب الفلسطيني في مأساته التي طال أمدها، وكان المنصفون اليهود في مقدمة المتعاطفين معه، وقد استقبل حاخاماتُهم الزعيمَ الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، مبتهجين بعودته إلى بلاده عام 1993، فكيف بنا نحن الذين نرتبط معهم بروابط القومية والدين والتأريخ والجغرافية واللغة والثقافة!
لكن من يسرق أبناء بلده ويقتلهم ويخطفهم ويملأ مؤسسات الدولة بأقاربه وأتباعه غير الأكفاء، ويتعاون مع دولة معادية ضدهم، بل يحاربهم لثماني سنوات ويسميهم "العدو الغاشم"، أو يطالب بتعويض تلك الدولة عن خسائرها في حربها معهم، أو يُقبِّل يد زعيمها أمام الكاميرات، أو يعلن أن "ذيول تلك الدولة هم أحرار الإمام الحسين"، غير مؤهل لأن يطالب بحقوق الشعب الفلسطيني، أو أي شعب آخر، وهو ينتهك حقوق شعبه يوميا، ويغتصب أموالهم ويقتلهم دون حياء أو وازع ديني أو أخلاقي أو وطني.
الشعب الفلسطيني شعب عظيم، وفيه علماء وخبراء وسياسيون ومفكرون، وله قيادات وممثلون منتخبون، وهؤلاء هم من يتحدث باسمه، وهم فقط من يحدد أولوياته وخططه لاستعادة حقوقه، أما المتعاطفون الحقيقيون معه، وهم كثر ومنتشرون في أنحاء العالم المختلفة، فيمكنهم أن يساندوا المؤسسات الوطنية الفلسطينية الرسمية، ولا يزايدوا على الفلسطينيين ويتحدثوا باسمهم. مثل هذه الخدع لم تعد تنطلي على أحد، لا الفلسطينيين ولا غيرِهم من الشعوب العربية والإسلامية.
الفلسطينيون أدركوا منذ زمن بعيد أن السبب الأساسي لاستمرار مأساتهم وعدم التوصل إلى حل عادل لقضيتهم حتى الآن، هو التدخلات الأجنبية في شؤونهم، والمزايدات عليهم والخطابات الرنانة الفارغة من أي محتوى، التي أطلقها كثيرون منذ بداية القرن الماضي وحتى الآن.
يتوهم هؤلاء الذين جُبلوا على الخداع والدجل بأن العراقيين مازالوا يتأثرون بالشعارات الرنانة والبطولات الدونكيخوتية، وأنهم سوف ينبهرون بهذا الخطاب المتشدد الذي يطلقه هؤلاء المعروفون بفسادهم ودجلهم، وأن هذه الخزعبلات المفضوحة سوف تنطلي عليهم، وتدفعهم للتصويت لهم والقبول بهم مرة أخرى. الشعوب العربية جميعا، بلغت مرحلة عالية من النضج، وهذا يتجلى في العديد من المواقف الشعبية المسؤولة والنابهة التي رأيناها في مصر والمغرب وتونس والجزائر والأردن والعراق، الرافضة للشعارات الهوائية، والمطالِبة بحياة حرة كريمة ولائقة بهذا العصر، عصر المعلومات والتكنولوجيا والرخاء والتطور والتعاون والوئام بين شعوب الأرض.
يذهب العراقيون خلال أسبوع إلى صناديق الاقتراع وأمامهم خياراتٌ عديدة، والمطلوب هو عدم تكرار الأخطاء السابقة. سيجدون على أوراق الاقتراع أسماءَ مستهلكة تمثل قوى فاسدة، وبعضها ارتكب جرائم قتل وخطف، وبعضها خدم دولة معادية دون خجل، ومازال يعمل لصالحها ضد مصلحة بلده، لكن هناك أسماءَ أخرى جديدة، مستقلة ونزيهة، تبتغي إحداث تغيير حقيقي في بنية النظام السياسي كي يكون معبرا بحق عن إرادة الشعب العراقي بكل تلاوينه السياسية والاجتماعية والقومية.
لن أقدم أي نصيحة للناخب العراقي الواعي، الذي يعرف مصلحته، خصوصا وأن جروحه التي أحدثتها الجماعات الفاسدة المتشدقة بالدين والمذهب، مازالت نازفة، ودماء الشهداء مازالت طرية، وجروح الجرحى لم تندمل بعد. الجميع يتوقون إلى بزوغ فجر جديد، وبروز طبقة سياسية جديدة، تعمل من أجل خدمة الناس وتعزيز تماسك مؤسسات الدولة التي تنصف كل أبنائها، وبناء علاقاتها مع دول العالم على أسس سليمة تخدم المصلحة العامة والخاصة على حد سواء، فلا فرق بينهما في الظروف الطبيعية العادلة.
لكن الذي يخشاه الناخبون في هذه الانتخابات أن يحصل تزويرٌ واسع النطاق، يغير النتائج لصالح الفاسدين، كما حصل في الانتخابات السابقة. لذلك أصبح لزاما أن يضطلع المراقبون الدوليون والمحليون، وكذلك المواطنون ووسائل الإعلام المستقلة، بمسؤولياتهم في رصد المخالفات وتوثيقها وإبلاغ المفوضية والرأي العام عنها، كي يتمكن الناخبون من الحصول على التمثيل الذي ينشدونه.
ما يأمله العراقيون من هذه الانتخابات أن تسفر عن تشكيل حكومة قوية قادرة على معالجة التحديات التي يواجهها العراق حاليا ومستقبلا، وأهمها مكافحة الفساد وفرض سيادة الدولة على مؤسساتها الأمنية والاقتصادية، وإقامة علاقات متوازنة مع دول العالم المختلفة، دون تدخل من أي قوة إقليمية أو دولية.
معظم المشاكل التي عاناها العراق خلال السنوات الثماني عشر الماضية كانت بسبب التدخلات الأجنبية في شؤونه الداخلية، خصوصا الدعم الذي حصلت عليه قوى مسلحة خارجة عن القانون وعليه، والذي مكَّنها من اغتصاب حقوق الناس وقمعهم وإذلالهم وتشتيت قواهم ودفعهم إلى اليأس والهجرة. وبسبب الحماية والدعم اللذين تمتعت بهما هذه القوى، فقد تمكنت من البقاء والتمدد على حساب حقوق الناس، والهيمنة على مؤسسات الدولة، وإقصاء وقمع وقتل وخطف كل من يعترض عليها. هذه الحالة الشاذة يجب أن تنتهي سريعا، وفي خلاف ذلك فإن المشكلة العراقية سوف تتواصل وتتفاقم، وإن تطوراتها اللاحقة لن تكون في صالح المزورين والمتجاوزين.
هناك قول مأثور ورد في أعمال الكاتب الفرنسي، جاك أبادي، الذي عاش في القرن السابع عشر، ونسبه آخرون خطأً إلى الرئيس الأميركي، إبراهام لنكون، الذي عاش في القرن التاسع عشر، وفحواه أنه "يمكنك أن تخدع كل الناس لبعض الوقت، وبعض الناس طول الوقت، لكنك لن تستطيع أن تخدع كل الناس طول الوقت". هذه المقولة الخالدة، تنطبق على ما يجري في العراق هذه الأيام. فهناك من خدع كل الناس لبعض الوقت، وتوهم بأن بإمكانه أن يخدع كل الناس في كل الأوقات. لكن الأحداث المتسارعة في عصر المعلومات والاتصالات سوف تعريه وتضعه في مكانه الطبيعي، إن كان له من مكان في عالم يقوم على العلم والعقلانية والتطور السريع.