الهزيمة التي مُنيَ بها حزب العدالة والتنمية المغربي في الانتخابات التشريعية الأخيرة، يوم 8 سبتمبر الجاري، كانت حدثا لا تقتصر دلالاته ودروسه على المغرب، بل تتجاوزه إلى كامل الفضاء العربي، ولا يمكن أيضا قصرُ دوافع الحدث ومآلاته على البعد السياسي، ذلك أنه نتج عن أسباب فكرية واجتماعية وسياسية متداخلة، وسيؤدي إلى مآلات متنوعة من جنس أسبابه.
ما يعزز أهمية الحدث المغربي، أنه جاء في سياق تحولات عصيبة تعيشها الفروع الإخوانية في أكثر من قطر عربي في مصر وفي السودان، كما في تونس وفي ليبيا، وفي جل الأقطار العربية التي تنشط الأحزاب الإخوانية في فضاءاتها.
وعلى الرغم من كون كل التيارات الإخوانية العربية تعيش أياما صعبة نتيجة تداخل عوامل محلية وإقليمية ودولية، إلا أن أكبر المتشائمين لم يكن يتوقع أن يكون انحدار حزب العدالة والتنمية المغربي بتلك الشاكلة.
لم يحصل الحزب الإخواني المغربي على أكثر من 12 مقعدا وجاء ثامنا في الترتيب، بعد أن حاز في انتخابات العام 2016 على 125 مقعدا. وهي حصيلة أقل من الأرقام التي حصّلها الحزب في الانتخابات الأولى التي شارك فيها في العام 1997 حين حصل على 9 مقاعد، باعتبار أن مشاركته وقتها محدودة ولم تتجاوز 24 دائرة من جملة 325 دائرة انتخابية.
منذ وصوله إلى الحكم إثر انتخابات العام 2011، كان يُنتظرُ من الحزب الإخواني أن يحقق أرقاما اقتصادية تليق بالطموحات السياسية والاقتصادية للمغرب، الذي كان يعيش استقرارا سياسيا واجتماعيا ولم يتأثر بالرياح التي هبت على المنطقة إثر ثورات العام 2011.
كان الحزب الإخواني الذي وصل إلى الحكم في تلك الظرفية "محظوظا" سياسيا باعتبار وجوده في بيئة سياسية متفردة في المنطقة، سواء نتيجة لحيويتها السياسية والاقتصادية، أو لنظامها الملكي الذي يقف على مشروعية دينية وتاريخية صلبة، أو لخصوصيات البلاد التاريخية ذلك أنه البلد المغاربي الوحيد الذي لم تطأه أقدام الاستعمار العثماني.
لكن مسار الصعود الإخواني لم يدم طويلا، حيث توسعت القناعة الشعبية المغربية بكون الحزب بصدد خيانة تطلعات المغرب، وأنه لم يلتقط المميزات السياسية والاقتصادية للبلاد ولم يحولها إلى مكاسب، وأن حصاده الاقتصادي والسياسي لم يكن عاكسا للأرقام التي حصلها في انتخابات العام 2011 والعام 2016.
ولعل تواتر المشاكل السياسية التي عرفها الحزب، سواء في أورقته الداخلية أو في تعامله مع بقية الأحزاب، كانت تنذر الحزب الإخواني بالنهاية التي حصلت يوم 8 سبتمبر الجاري.
على ذلك فإن هزيمة إخوان المغرب كانت هزيمة طبيعية ومنتظرة، لأسباب سياسية واقتصادية متداخلة، وأيضا نتيجة عوامل فكرية وأيديولوجية، بعضها يخص المغرب نفسه، وبعضها الآخر يشترك فيه حزب العدالة والتنمية مع بقية الفروع الإخوانية في المنطقة.
القول بأن هزيمة العدالة والتنمية في المغرب كانت نتيجة تصويت عقابي، هو قول صحيح لكنه لا يغطي كامل الحقيقة. صحيح أن فئات واسعة من الشعب المغربي (بدليل النتائج) أيقنت أن حزب العدالة والتنمية غير قادر على تحقيق أي تقدم اقتصادي وسياسي في بلد يتّقدُ حيوية ويحتاج فقط حسن تدبير وتخطيط لكي يضاعف سرعة نهضته، لكن الحزب وفر أيضا بمشاكله الداخلية وانقساماته مساهمة كبيرة في هزيمته.
على ذلك فإن أسباب الهزيمة بدأت منذ السنوات الأولى للحكم حين سوّق الحزب لأنصاره ولعموم الشعب المغربي مفهوما مبتكرا للعمل السياسي يقوم على "العذرية السياسية" باعتبار أن الحزب لا يمتلك تجارب فشل سابقة. (ومفهوم العذرية السياسية يكتظّ بالدلالات الأخلاقية التي لا تغيب عن لاوعي الحزب وأديباته).
وفي الوقت الذي انتظر المغاربة أن يساهم الحزب، باعتباره حزبا حاكما طيلة عشر سنوات، في تحقيق النقلة النوعية التي يرنو إليها المغاربة، طبّق الحزب الإخواني سياسة تقوم على إجراءات اقتصادية واجتماعية مرهقة للطبقات الفقيرة والوسطى، حيث رفع الدعم على أسعار المحروقات، ورفع سنّ التقاعد، ودخل في مواجهة مع قطاع مهم في الذهنية الاجتماعية المغربية وهو قطاع التعليم، حين أقرّ نظام التعاقد مع المعلمين بدل إدماجهم في سلك الوظيفة العمومية، وهو ما جعل سياسة الحزب في مرمى نيران الأسلاك التعليمية والنقابات وعموم الشعب المتعاطف مع الفاعلين في العملية التربوية، تبعا لأهمية التعليم في الثقافة المغربية التي مازالت تعتبر التعليم مصعدا اجتماعيا.
ولم ينجح الحزب أيضا في توفير فرص العمل وفي المحافظة على القدرة الشرائية التي تتحقق بتحقيق التوازن الضروري بين الأجور والأسعار، وفشل في تذليل مشاكل قطاعات الزراعة والصناعة، وزادت تبعات جائحة كورونا في تأكيد عقم خيارات الحزب الإخواني.
مهم التذكير بأن شعار حزب العدالة والتنمية في انتخابات العام 2011 كان "صوتك فرصتك لمحاربة الفساد والاستبداد"، لكن ما عاينه الشعب المغربي خلال السنوات الموالية لوصول الحزب إلى الحكم قدم قرائن على أن ذلك الشعار كان معدا فقط للضرورات الانتخابية وانتهت صلاحيته بعد وصول الحزب إلى الحكم. حيث تتالت قضايا الفساد التي كانت تشير إلى ضلوع مسؤولين وقياديين في الحزب، ولم يعد غريبا في المغرب الحديث عن كون الفساد أصبح معششا في سلطة "العدالة والتنمية".
في كلمة، فشل العدالة والتنمية المغربي في تحقيق التنمية والاستقرار الاقتصادي، وهو ما كانت كل المؤشرات الداخلية فضلا عن وضعية طول الجوار توفر لها كل ممهدات النجاح الذي بددته سياسات العدالة والتنمية.
لم تنبع هزيمة العدالة والتنمية فقط من فشل السياسات، بل نبعت أيضا من خلافات الأروقة الداخلية للحزب. وهي خلافات نتجت عن التصادم بين التيار السياسي والتيار الأيديولوجي، أي بين التيار الذين يريد أن يحافظ على الحكم بما يعنيه ذلك من انحناءات أو تنازلات وبين تيار آخر يريد الوفاء للمرجعية الإسلاموية للحزب.
هنا لا يفترضُ بنا أن نصدق أن الخلافات دبت داخل جسم الحزب نتيجة تطبيع المغرب علاقاته مع إسرائيل، وهو تضليل يروجه الإسلامويون لكي يورطوا المؤسسة الملكية. ذلك أن الخلافات سابقة لإعلان المغرب إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل في ديسمبر 2020، وهي أيضا أكثر عمقا من هذا التبسيط. الخلافات داخل الأجسام الإخوانية هي ظاهرة متكررة في كل الأقطار العربية، وهي تظهر نتيجة الاحتكاكات التي تواجهها الأحزاب الإخوانية مع أسئلة واختبارات فكرية وسياسية تجد نفسها خلالها ممزقة بين ما تقتضيه طبيعة الحكم وما تنادي به أدبياتها.
هيمنة عبدالإله بنكيران مثلا وتبرم الكثير من أعضاء الحزب من نتائجها سبقت التطبيع المغربي بسنوات، ولذلك كان تكليف العاهل المغربي الملك محمد السادس لسعدالدين العثماني بتشكيل الحكومة خلفا بنكيران في مارس 2017، قد أوقد نيران الانقسام بين تيار "الاستوزار" المناصر للعثماني، وتيار بنكيران وهم الذين صبوا جام غضبهم على حكومة العثماني وخياراتها، وهم أيضا الذين نفخوا في قضية التطبيع لكي يضعفوا موقف التيار الآخر وموقف المؤسسة الملكية في آن.
هزيمة حزب العدالة والتنمية، وفضلا عن انعكاساتها الداخلية من ناحية كونها ستعسر إمكانية عودة الإخوان إلى الحكم في المدى المتوسط على الأقل، هي أيضا تأكيد جديد على أزمة يعيشها الإخوان. أزمة بأضلع متعددة؛ أولها يفيد بان الإخوان، والحزب المغربي في القلب منهم، لا يتوفرون على برامج يمكن أن تفيد الناس وتصنع تنمية وتشيد عمرانا. وثانيها يشير إلى أن الإخوان دأبوا على تقديم الوعود ثم الانطلاق في التبرير عند كل فشل. وثالثها أن الأحزاب الإخوانية أصبحت خارج حسابات الفئات الشعبية والشباب العربي بعد أن تعزز اليقين بأنهم يعرّفون الشرعية بوجودهم في الحكم، ويعرفون الديمقراطية بوصولهم إلى السلطة. ورابع الأضلع هو كون كل الأحزاب الإخوانية لم تحسم بعد هويتها السياسية، حيث ظلت تترنحُ بين هويتها كجماعة دينية، وبين صفتها كحزب سياسي، وكل الأحزاب الإخوانية كان تقع في مطب التناقض بين مرجعياتها القديمة وبين مقتضيات القيادة السياسية الحديثة.
الواضح أن السياق الإقليمي الراهن أكد أن هزيمة حزب العدالة والتنمية هي هزيمة طبيعية للأسباب التي أشرنا إليها، لكن ما أكده السياق الراهن أن كل الأطروحات الإخوانية تعيش انحسارا في العالم العربي، ولن تعود إلى واجهة الحكم بالسهولة التي وصلت بها في السنوات الماضية، لأن الشباب العربي لن تنطلي عليه الوعود التي سوقها له الإسلاميون منذ سنوات. المرحلة العربية القادمة هي مرحلة أرقام اقتصادية وتنمية وحيوية اقتصادية ومشاريع طموحة، ولن يجد فيها الإخوان ما يقدمون، ولن يسعفهم في ذلك تضليلهم القديم ولا مظلوميتهم المعتادة. درس جديد يأتي من المغرب بعد دروس مصر وتونس، وكلها تتفق على أن الإخوان بلا مستقبل.