أنجيلا ميركل، التي وُصِفت بأنها المدافع الأخير عن النظام الليبرالي الدولي، تغادر موقعها في قيادة ألمانيا والاتحاد الأوروبي والليبرالية الدولية خلال أسابيع، فمن يملأ هذا الموقع الشاغر في غيابها؟ وهل هناك من مدافعين عن الليبرالية في عالم اشتدت فيه قيم المحافظة والانعزالية؟
لقد تبوأت ميركل موقع المدافع الأول عن القيم الليبرالية في العالم، رغم أنها أتت إليه من خلفية محافظة، فالاتحاد الديمقراطي المسيحي، الذي تقوده منذ عام 2002، هو حزب قومي محافظ، ومازال يحمل اسما دينيا رغم علمانيته، لكن ميركل، الألمانية الشرقية المشبعة بالقيم الإنسانية والاشتراكية، والمرأة الوفية لطبيعتها البشرية المسالمة، نقلته نقلة فكرية نوعية خلال قيادتها له التي قاربت العقدين.
لم تكن ميركل مهتمة بالسياسة في بداية حياتها، فقد اختصت بالكيمياء النووية ونالت فيها شهادة الدكتوراه منتصف الثمانينيات، لكنها وجدت الفرصة المناسبة بعد سقوط الحكم الشيوعي في ألمانيا الشرقية، فأصبحت ناطقة باسم أول حكومة ديمقراطية في ألمانيا الشرقية، وبعد وحدة الألمانيتين، التي رعاها موحِّد ألمانيا الحديثة، هلمت كول، فازت ميركل بمقعد نيابي في الـ(بونداستاغ) ممثلة عن ولاية مكلينبيرغ-فوربوميرن في ألمانيا الشرقية.
كانت وحدة ألمانيا الهم الأكبر للمستشار الألماني الأسبق، هلمت كول، وحزبه، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وقد قدم من أجلها تضحيات جمة، منها مثلا مساواة العملة الألمانية الشرقية، بعملة ألمانيا الغربية، وكلتاهما تحملان اسم المارك، والتي كلفت ألمانيا مبالغ باهظة حينها، لكنها سرَّعت في توحيدها، ولولا هذه التضحية التي استفاد منها مواطنو ألمانيا الشرقية، لما تحققت الوحدة التي كان ينشدها الشعب الألماني عموما.
وفي خضم بحث كول عن شركاء شرقيين يمكن أن يشاركوا في الحكومة الموحدة لألمانيا، رأى في الشابة الصاعدة، أنجيلا ميركل، قائدا واعدا، لأنها مؤمنة بوحدة الدولة الألمانية ومبادئ الاتحاد الديمقراطي المسيحي، فعينها وزيرة لشؤون المرأة والشباب في أول حكومة شُكلت بعد الوحدة عام 1991.
وبعد ثلاث سنوات في المنصب، انتقلت ميركل لتصبح وزيرة للبيئة والسلامة النووية.
وبعد خسارة الحزب في الانتخابات أواخر التسعينيات، انتخبت ميركل زعيمة للحزب، فقادته إلى الفوز في انتخابات عام 2005، متفوقة على المستشار، غيرهارد شرودر، زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي.
كان الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وشقيقه، الاتحاد الاجتماعي المسيحي البفاري، التكتل الأكبر بين الأحزاب الفائزة، لكنه لم يفُز بغالبية تمكِّنه من تشكيل الحكومة، فلجأت ميركل إلى التحالف مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي لتشكيل أول حكومة تترأسها امرأة، وأول حكومة يترأسها سياسي من ألمانيا الشرقية.
كان وجود ميركل على رأس الحكومة لستة عشر عاما، قد رسخ الوحدة الألمانية ومبادئ اللبرالية في عموم البلاد، خصوصا بعد الشرخ الذي أوجده انقسام ألمانيا، الذي أسس لثقافتين مختلفتين في شرق البلاد وغربها.
نجحت ميركل في تعزيز النمو الاقتصادي الألماني عبر رفع حجم الصادرات، ما وفر للخزينة سيولة نقدية مكنتها من أن تنفق على الاتحاد الأوروبي وتعزز من تماسكه وتنقذ دوله من الأزمات المالية. فقد أنقذت ألمانيا العديد من دول الاتحاد من أزمات اقتصادية خانقة، كادت أن تدفعها خارج الاتحاد، خصوصا اليونان التي لم يستطع اقتصادها الصمود والتنافس مع اقتصادات باقي الدول الأعضاء، خصوصا مع فقدان الحكومات الوطنية قدرتها على المناورة المالية بسبب ارتباطها بآلية الاتحاد الأوروبي النقدية.
تمكنت ميركل من إقرار سياسات لبرالية اشتراكية على الرغم من أنها تنتمي إلى حزب محافظ، فقد أقرت مبدأ الحد الأدنى للأجور، متفوقة على سلفها المستشار اللبرالي، غيرهارد شرودر، الذي كان قد أجرى إصلاحات اقتصادية واسعة النطاق لها الفضل في تعزيز تنافسية الصناعات الألمانية، إذ قادت إلى خفض أجور العمال التي تبعها انخفاض كلفة الانتاج. وعند تبني العملة الأوروبية الموحدة، اليورو، عام 1999، أصبحت الصادرات الألمانية الأقل سعرا والأعلى جودة بين دول الاتحاد، وربما دول العالم، نتيجة لسياسات شرودر، لكن ميركل حصدت نتائج هذا النجاح، بينما دفع شرودر ثمن إصلاحاته بتراجع شعبية حزبه وخروجه من الحكومة. ومما عزز هذا النمو، تزامنه مع ارتفاع الطلب على الصناعات الألمانية من الصين، الأمر الذي منح ميركل حرية أكبر في الإنفاق في ألمانيا وفي الاتحاد الأوروبي.
كان تبني ميركل سياسات لبرالية اشتراكية، على الرغم من أنه كان تنازلا من حزبها لشريكه في الحكومة، الحزب الديمقراطي الاجتماعي، قد مكنها من كسب ناخبين جدد لحزبها من الطبقة العاملة، وفي الوقت نفسه دفع الكثير من ناخبي الأحزاب الأخرى بالعزوف عن التصويت في الانتخابات اللاحقة، باعتبار أن (الأم) ميركل تؤدي عملا ناجحا في إدارة البلد.
لم تكن سياسات ميركل جميعها صحيحة، فقد ارتكبت أخطاء كلفت الخزينة الألمانية مليارات الدولارات، منها مثلا إلغاء قرار حكومة شرودر السابق بإنهاء الاعتماد على الطاقة النووية، ثم العودة عن هذا القرار والعمل بقرار شرودر، إثر حدوث كارثة فوكوشيما النووية في اليابان عام 2011، الأمر الذي كلف ألمانيا أموالا طائلة. لكن القرار الأكثر جرأة، ألمانياً وأوروبياً، والذي حسن من صورة ميركل عالميا، كان قرار السماح للاجئين بدخول ألمانيا، وهو قرار يخالف سياساتها السابقة الرامية إلى الحد من اللاجئين، خصوصا وأنها كانت وراء قرار الاتفاق مع تركيا لإبقاء اللاجئين على أراضيها، مقابل دفع أموال لتركيا.
كانت المصلحة الألمانية بالنسبة لميركل تتقدم على المبادئ، وهذا واضح في العديد من السياسات التي تبنتها ثم أدارت ظهرها لها بعد أن تغيرت بوصلة المصلحة الألمانية. مثلا، استقبلت ميركل الزعيم الروحي للتِّبت، دالاي لاما، ودعمت حقوق الشعب التبتي، لكنها تخلت عن الموضوع عندما تحسنت علاقات ألمانيا الاقتصادية مع الصين، بل قدمت مبادرة جديدة لتعزيز هذه العلاقات وهي "اتفاقية الاستثمار بين الصين والاتحاد الأوروبي". كما تجلى موقف ميركل البراغماتي في قبول الزعيم الهنغاري اليميني، فيكتور أوربان، ضمن مؤتمر أحزاب الوسط الديمقراطية، رغم أنه ينتمي إلى اليمين المتشدد، لكن العلاقة التجارية بين بلديهما، خصوصا صادرات السيارات الألمانية إلى هنغاريا، قد حوّلت انتماء أوربان، في نظر ميركل، من اليمين إلى الوسط.
انتُخبت ميركل أربع مرات مستشارة لألمانيا الاتحادية، وهو المنصب الذي شغله موحِّد ألمانيا، أوتو بسمارك، لأول مرة عام 1871 بعد انتهاء مرحلة الحكم الديني، وتمكنت خلال الدورات الانتخابية الثلاث الأولى من زيادة عدد نواب حزبها في البرلمان، لكن العدد تراجع في انتخابات عام 2018، وقد يكون هذا هو السبب الرئيس الذي دفعها لأن تعلن عدم ترشحها لدورة خامسة.
تمكنت ميركل خلال سنواتها الست عشرة في السلطة من تأسيس شعبية كبيرة بين شرائح الشعب الألماني المختلفة، إذ بدأ الألمان ينظرون إليها كزعيم قومي أو رمز للدولة، وليست شاغلة للمنصب التنفيذي الأول فحسب، ولو أنها رغبت في البقاء لربما فازت بولاية خامسة، لكنها اختارت التقاعد، فالعمل في السياسة محفوف بالمفاجآت، السارة والمزعجة، وأن تناقص شعبية حزبها في انتخابات 2018 كان تحذيرا (وديا) لها بألا تبقى طويلا في السلطة.
لكن تخليها عن قيادة المحافظين ستكلفهم غاليا. وفعلا فقد أظهرت النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية الألمانية التي أجريت الأحد، تقدم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط)، بقيادة أولاف شولز، على الاتحاد الديمقراطي المسيحي وحليفه الاتحاد الاجتماعي المسيحي (البفاري)، بأكثر من خمسين مقعدا، ما يعني أن خليفة ميركل في قيادة الحزب، أرمين لاشت، لن يشكل الحكومة المقبلة، والتي ستكون حكومة ائتلافية كما هو المعتاد في ألمانيا، إذ لم يتمكن أي حزب أن يحكم منفردا منذ بدء الديمقراطية الألمانية بعد هزيمة النازية في الحرب العالمية الثانية.
هل استحقت ميركل لقب المدافع الأخير عن الليبرالية الدولية؟ نعم، لأنها كانت الزعيم الأقوى في العالم المدافع عن القيم الليبرالية وحقوق المرأة والعمال والفقراء واللاجئين. ولكن لماذا آلت زعامة الليبرالية إلى زعيم محافظ، بدلا من زعيم يساري كالمعتاد؟ السبب هو تراجع الأحزاب اليسارية والليبرالية خلال العقد المنصرم الذي ساد فيه زعماء مثل ترامب وبوريس وبوتن.
وحتى في فرنسا، لم يجرؤ زعيم الحزب الاشتراكي، الرئيس فرانسوا أولاند، على الترشح لولاية ثانية عام 2017، بسبب المد اليميني في البلاد، ليفسح المجال لزعيم شاب يقود تيارا وسطيا جديدا، هو إيمانويل ماكرون.
وفي أستراليا، يتبع الحزب اللبرالي سياسات هي أقرب إلى اليمين منها إلى اليسار. أما في الولايات المتحدة، فإن وصف أي سياسي بأنه (ليبرالي) يعتبر انتقاصا منه! الجمهوريون دائما يصفون خصومهم الديمقراطيين بأنهم (ليبراليون)، بينما يخفي الديمقراطيون ليبراليتهم (إن وجدت) خشية أن تؤثر على فرصهم في الفوز!
جامعة هارفارد الأميركية استضافت أنغيلا ميركل عام 2019 ومنحتها الدكتوراه الفخرية في القانون، اعترافا منها "بقيادة ميركل الحازمة في الساحة العالمية ودفاعها الذي لا يلين عن المُثل الديمقراطية والتعاون الدولي". هل يتمكن المستشار المقبل، أولاف شولز، اليساري الليبرالي، من قيادة الليبرالية الدولية؟ لا شك أنه يطمح إلى ذلك، فهو الأجدر به من ميركل، لكنه سيحتاج ظروفا اقتصادية وسياسية مواتية، كتلك التي توفرت لميركل. لا شك بأن شولز أولى بالدفاع عن اليسار والليبرالية من السياسيين اليمينيين، لكنه لن يحكم منفردا، بل سيشترك مع أحزاب اليمين، الأمر الذي يقيد حركته ويحد من حريته في اتباع سياسات تتفق مع مبادئ حزبه.