المشهد الأفغاني بكل مشاهده السريالية يدعو للتساؤل إن كان النظام العالمي قد تغير أو أن هناك معايير اختلفت في شكل الدول السياسية وشرعيتها القانونية؟
يقايض المجتمع الدولي حركة طالبان بشأن الاعتراف مقايضة فاضحة بل هي خادشة لاعتبارات العقل والمنطق، المقايضة ليست على فرض الديمقراطية مقابل الاعتراف الدولي بل تشكيل حكومة فيها ما تيسر من ما يمكن أن تسمح به طالبان، وكأن المشهد انتقل إلى أقرب ما يمكن وصفه بشروط الاستسلام مع خروج الجندي الأميركي الأخير.
أفغانستان ليست النموذج الأوحد فلقد سبقتها الصومال التي تتحكم بها الجماعات الراديكالية وفرضت على المجتمع الدولي شكلاً سياسياً متشظياً يتم التعامل معه منذ عقود، فشلت بعض من الدول في تكوين الدولة الوطنية على رغم نهاية الحقبة الاستعمارية وظهور النظام العالمي، فشل التكوين السياسي كان المشكلة التي من خلالها ظهرت الحروب اللا منتهية في استهلاك للزمن وإهدار لما يتوافر من إمكانيات وطاقات وثروات.
النظام العالمي الجديد وهو ما تأسس بعد سقوط جدار برلين يعتمد على نموذج حرب البلقان على اعتبارها حرب أهلية أخذت مداها الزمني وانتهت بسلام مستدام وفقاً لتوافقات محلية وبرعاية اقليمية ودولية، هذا النموذج من المستحيل أن يتحقق في دول كأفغانستان واليمن والصومال، فهذه بلدان تمتلك من محفزات الحرب أكثر من امتلاكها محفزات السلم والأعمار.
هناك بيئات خصبة للاحتراب وهي كالمعامل والمختبرات السرية التي انتجت الجمرة الخبيثة في غفلة من عيون الرقيب، البلدان التي تعيش على الصراعات أنتجت التنظيمات المتوحشة كمنتجات لمعامل وجدت في دول الصراعات، تنظيم القاعدة ولد في أفغانستان من خلال سنوات الجهاد الأفغاني في ثمانينيات القرن العشرين وكان المنتج الأول قبل أن يتم إصدار النسخة المعربة منه في اليمن عام 1995 بتكوين تنظيم القاعدة في جزيرة العرب.
في الصومال تشكلت حركة الشباب واستحوذت على جزء من الجغرافيا ومازالت تفرض سيطرتها وتتعاطى معها المنظمات الدولية تحت سياسة فرض الأمر الواقع، ينجر الحال كذلك اليمن الذي تشكلت فيه التشكيلات الراديكالية السنية والشيعية في ظل الفوضى السياسية حتى حدث الزلزال بانقلاب الحوثيين في سبتمبر 2014 وفرضهم واقع سياسي جعل اليمننة إطار منتج لأزمات وصراعات وحقيقة لا مناص من الاعتراف بها والإقرار بوجودها.
فرضت وقائع الصراعات في الصومال واليمن وأفغانستان حقائقها ومكنت للتنظيمات الراديكالية سيطرتها على السلطات السياسية وهو ما جعل النظام العالمي أمام خيارات صعبة فأما عزل هذه البلدان وترك شعوبها تواجه الفقر والجوع أو يتم التعاطي مع الممثليات السياسية بالحد الأدنى، خيارات عسيرة غير أن ثمنها باهظ للغاية، تعاملت مع هذه التنظيمات تحت ضغط الواقع، ولا تخفي كل التنظيمات من القاعدة وداعش غيرهما أن تحويل المجتمعات المدنية لرهائن يوفر فرصة الابتزاز.
تنبه مبكراً زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن على الدول الفاشلة كبيئات يمكن من خلالها للتنظيمات الجهادية توفير معسكرات التدريب والإيواء لعناصر التنظيم، لم يتتبه أحد في تسعينيات القرن العشرين لما حدث بسرعة وبتوالي بين الصومال واليمن، الولايات المتحدة وهي ترفع اسم الحوثيين من قائمة الإرهاب كانت تدرك الخطوة التالية تماماً وهي تسليم حركة طالبان لدولة أفغانستان.
الأمر لم يدبر بليل بل في وضح النهار وعلى امتداد السنين فمؤشرات الدول الفاشلة واضحة ومعلنة وتجد اهتماماً واسعاً عند بن لادن والظواهري ونصر الله والبغدادي، هنا فقط يجب الاستدراك في غايات الاستغراق المبهم حول كيف تتكون البيئات الحاضنة للإرهاب، المنطق وحده يرفض مسوغات استعادة الأوطان الفاشلة فهذه بلدان فاشلة يجب التعامل معها بواقع الحال فالأفغنة والصوملة واليمننة نماذج واحدة لبلدان تعيش في أزمنة أخرى.