أفلاطون يوصي بأن نقلع عن شغفنا بالذهب: الذهب في صيغته الحرفيّة والمعدنيّة، ونلتفت إلى الذهب الآخر: الذهب الذي يسكننا، ونستطيع أن نكتشفه في نفوسنا، لأنه هو الذهب الجدير بأن نقتنيه، ونحرص على استعماله في دنيانا.
لأن الذهب وحده العملة التي لن تخذلنا، إذا ما قورن بالذهب في ماهيّته النفعيّة، مادمنا سنتفق مع القدّيس، الذي تغنَّى في وصيّته الخالدة بالحرف الذي لم يُخلق إلّا ليُميت، مقابل الروح التي لم تُخلَق إلّا لتُحيي.
والذهب، في العربية، مسلّح بدلالة لا تخلو من خبث. فهو رديف لـ«الذهاب»، كأنَّ دُهاة اللغة يأبون إلّا أن ينبّهونا إلى طبيعة هذا المعدن اللئيم، الذي نستميت في الحصول عليه، حتّى إذا ظفرنا به، ثمّ تأهّبنا للذهاب به، اكتشفنا، بعد فوات الأوان، أنه هو الذي ذهب بنا! ذهب بقيمتنا، المخفيّة في كلمة «ضمير»، مخلّفاً وراءه هباءً اعتدنا أن نختلق له إسماً آخر هو: التّبر!
ولِمَ لا إذا كان جناب الذهب هو، في لغةٍ هي رديف وجود، قرين «الذهاب»، لا البقاء، وليته ذهابٌ بحمولة الذهب، ولكنه عندما يذهب، فدينه أن يذهب بروح صاحبه، الذي راهن على امتلاكه، ولا يدري أنه البعبع الوحيد الذي يمتلك كلّ من توهّمَ أنه أوتي عليه سلطاناً، سيّما في حال تأمّلنا سلطته على النفوس.
ويبدو أن إسم الذهب لم يرد في صيغة الماضي، من خلال كلمة «ذَهَبَ»، مصادفةً، لأن لغات العالم القديم تأبَى إلّا أن تتحفنا به في صيغة الزمن الضائع أيضاً، من خلال كلمة معتمدة في اللغات الأوروبية، استعارةً من اللاتينية، كما في Oro الدالّة على الذهب حرفياً، ولكن الثروة الحقيقية فيها تسكن معناها كـ: قِدمة، كما تجود بها علينا اللغات المنبثقة عن البدئية، كالمصرية القديمة، وشقيقتها الليبية القديمة. فهل تكفي مهلة الثلاثة آلاف عام لتكون سبباً لميلاد هذا المعدن المدهش في عروق الأرض، كما يحدّدها إبن خلدون؟
علّ ما يجب أن نعلمه هو حقيقة القِدمة هنا، ثمّ حقيقة Oro اللاتينية كوَسْمٍ دالٍّ على معدنٍ لم تلبث مواهبه السحرية أن نصّبته قيمةً رمزيّة اعتمدتها الأمم كعملة في المعاملات التجاريّة. فـ«القدمة» مفردة حاوية لذخيرة ثريّة في المستوى الروحي أيضاً، لأن الزمن في عرفها ليس مجرد فحوى تترجم سيرورة وقت، ولكنها تتستّر على هوية المبدأ الأجدر بتبنّي معجزة الحضور في ماضٍ سحيق لم نجد ما يعبّره في العربية سوى كلمة: الأزل. أزلٌ هو رديفٌ حتّى في النطق لكلمة «أصل»، (لأن الزاي والصاد يتعاقبان). فما هو أصل كل شيء إن لم يكن الربوبية التي أوجدت بوجودها كل شيء؟
من الطبيعي أن يفوز أهل السرّ بقصب السبق، فيبادر إمام في علم الإستسرار كـ أبي بكر الشبلي فيعلن: «إنّي أغار على القديم أن يراه المُحدَث». فمن هو هذا القديم، ومن هو هذا المحدَث؟
القديم، بالطبع، هو المبدع. هو الخالق، أمّا المحدث فهو، بالطبع، المخلوق المختلق بمشيئة الخالق. ومن حقّ صاحب التقوى أن يرى في رؤية المخلوق، لخالق المخلوق، تجديفاً صريحاً، بل ومنكراً، في حقّ خالق المخلوق. فالرؤية هنا موقف. موقف شاهد عيان يقترف خطيئة من صنع حاسّة تنتمي إلى طينة الحسّ، طلباً لتحقيق ما لا سلطان عليه لعالم بادياتٍ هي غنيمة الطبيعة، المعادية، بحكم المنطق، لصنيع بُعدٍ مفقود، كما الحال مع الروح. فالرؤية شروعٌ في امتلاك سلطة على موضوع الرؤية، في تجربة ينقلب فيها المبدأ الذي كان صاحب الفضل في الفعل، مشهوداً باحتلاله موقع المفعول، فلا ضمان لغياب خلل قاتل في صميم معجزة هي، في الحقيقة، خلقٌ.
من الطبيعي أن تكتسب «القدمة» بُعْد الهالة القدسيّة، بسبب الأرومة الألوهيّة لأي مبدأ ذي علاقة بالزمن في صيغته كمبتدأ وجود، في ماهيّته كـ أزل، أو أصل. والدليل؟
يكفي أن يرد أسم «القديم» كماهيّة ألوهة، كي يدّعي كل ما انتمى إلى القدمة، كمفهوم، هويّة سموّ، والذهب لن يكون هنا استثناءً. ودرس اللغة البدئية يكمن في عبقريّة استنباط المفهوم المجرّد، من صلب التجربة الحسيّة، فلا يبقى هذا المعدن رهين المعنى الحرفيّ، ولكنه يستعير أبعاداً رمزيّة، ما لبثت أن استثمرتها الأمم في حقّ نحت مفاهيم المغامرة العقلية، فقدر الذهب أن يذهب، لأنه، في ماهيّة الحرف، صنيع باطل، ولذا يخلّف وراءه اللعنة! هذا في حين يكمن الخلاص في حقنة أفلاطون التي تطهّر المعدن من رجس الحرف، لتحقّق له خلاصاً بتعويذة الباطن. وهي البشارة التي حاول الأوائل أن يزفّوها لنا في كلمة oro كتركيب معنوي ملفّق من شقّين أوّلهما الـ or الدالّة في المصرية والليبيّة القديمتين على مبدأ الإستواء في اغتنام منازل الأعالي، أي، بابتسار، السموّ. وهو معنى اعتمدته السومريّة أيضاً. أمّا حرف الـ «o» فهو هنا يتمرّد على مدلوله الشائع كحرف صائت، ليكتسب صلاحيات السواكن، في: واو الميلاد، أو إعجاز ما اعتمدنا أن نسمّيه: حياةً. وهو، في الأصل، محاكاة لصرخة الإستهلال عند التحرّر من سجون الأمّهات، والإنبثاق إلى حِمَى واقعٍ مشبوه. وهو كثيراً ما يرد في صيغة الـ «E» أيضاً، كما يتناوله بلوتارخ بإسهاب في محاولة استنطاق الحجّة التي نصّبت هذه الـ«E» شعاراً يتبوّأ مدخل معبد دلفى، لينتهي إلى استنتاج المدلول نفسه، الذي دسّته لغة البدايات للبرهنة على الميلاد، أو الإحياء، ترجمةً لبشارة، منطوقة بروح فزع الأجنّة، لحظة النزول إلى ساحة الوجود!
فالـoro، إذاً، وصيّةً ترطن بوسامٍ يقول: الميلاد السامي، كناية عن الذهب، في علاقته بمبدأ آخر، أعظم شأناً من مجرّد معدن مستخرج من أعماق حضيضٍ، وهو: الشمس!
فالذهب، في مأثرة اللون، لا يعود معدن نحسٍ، المستعار من النحاس، ولكنه يتنكّر، في الانتماء إلى شعاع الشمس، لهويّته الأرضيّة، ليستعير قداسة الكوكب، الذي كان في كل ثقافات العالم القديم معبوداً وهو: الشمس!
فكلمة ro اختزلت حزمة مفاهيم قدسيّة سيكون لها مفعول السحر في مسيرة المفهوم، فيما لو أحسنّا معاملتها. فهي تعني، قبل كل شيء، القديم. والقدمة مستودع يجود بذخيرة جديرة بأن تستوقفنا، ولو لم يكن الأمر كذلك لما أتحفتنا برأس المفاهيم المترجم في معنى: الربوبيّة، كما هو سائدٌ في لغات العالم الأقدم عهداً. فبتعاقب حرف الـ o مع حرف الـ a ، ننال في المصرية والليبية القديمتين طائفة من الأسماء الطبيعية، التي اكتسبت بالإستعمال دلالات معنوية وروحيّة ورؤيويّة، بتصدّرها ربّ تاسوع الآلهة في ميثولوجيا الديانة المصرية، المعروف باسم: هرو (hru) وذلك بإضافة الهاء الدالّة في المصريّة على أيّ مبدأٍ حاوٍ كما في كلمة: بيت، لتستقيم البُنْية في عبارة: بيت الربّ. من هذه الرّاء المقدّسة نحصل على اشتقاق: رغ (بالغين)، الذي ترجمه علماء المصريات خطأً في صيغة: رع (بالعين)، حيث تغيب الحروف الحلقيّة في كلّ اللغات الحامية كالعين والحاء، ليتم استبدالهما بالغين والخاء. فـ oro باللغتين المصرية والليبية تُنطق «أورغ»، كناية عن الذهب، اشتقاقاً من فعل «يرغا» الدالّ على الإشتعال، من جانب، وعلى الإصفرار، من جانبٍ آخر، وكلاهما صفتان معبّرتان عن سيماء الشمس، بوصفها الكوكب الملتهب، أو المشتعل، والمميّز بفضل لونه الأصفر، المتداول في أدبيّات الشعوب كرديف للذهب، ولم يكن ليهيمن على القلوب إلّا بسبب هذه المواهب الطبيعيّة التي أهّلته لأن يهيمن على واقع الإنسان القديم، الشغوف بلعبة الأقنعة، التي أُوْتيت القدرة على احتواء الإزدواج في وظائف الموجودات، بحيث يتناوب الحسّ مع الحدس الأدوار، فتتحوّل النعوت دلالات، تحيل إلى القيمة الغيبيّة، بفضل فتنة الإغواء السارية في السّيماء الحرفيّة.
وأفلاطون عندما ينبّه الجيل إلى ضرورة الانحياز إلى ذهب الروح، في حمّى هوسنا للاستئثار بالنصيب الأوفر من ذهب الحرف، إنّما يحرّض على اعتناق دين المبدأ الخالد، في مقابل الافتتان بغنيمة المبدأ الفاني. وهو الدرس الذي حاول دهاة ثقافات الأمم الغابرة أن يلقّنوه للأجيال من خلال تسويق القيمة الرمزيّة، واعتمادها كعملة أحقّ بالتداول في معاملاتنا الدنيوية. فالشمس لا تعود، وحسب، بهذا القياس كوكباً فلكيّاً سابحاً في السماوات، كي يفيض على الأسافل بجوده الضوئيّ الضروريّ لوجودنا على اليابسة، ولكنها تلقّننا درساً أبعد منالاً: الضوء الروحي يلعب في المسير دور البطولة، ولون الفتنة، المترجمة في شعلة الإصفرار، ذهبيّة حقّاً، ولكن عنصر المادة الذهبيّة فيها مجرد إيماءة تستطيع أن تذهب بعقول البلهاء، في حين توقظ في الأدهياء مارد الفضول، الذي لا يقنع ببرهانٍ ما لم يُتوَّج برايات الحكمة.
ليس لهذه المزايا وحسب استطاعت الشمس أن تكون معبوداً، ولكن لخصلةٍ أجلّ وهي: الخلود!
فالشمس لا تتوقف عن السيرورة. فهي حتى عندما تهجع لالتقاط الأنفاس بعد يومٍ عصيّ، لا تلبث أن تصحو في الميعاد، لتواصل ملحمة الجود بفيوضها، وكثيراً ما تُنيب عنها بناتها النجوم في سويعات غفوتها، لتضيء لنا الدروب بالإنابة عنها، أو توكِل الأمر للأقمار كي تتولّى أمر الظلمات لإسعادنا، فتفعل المستحيل كي تؤكّد حضورها الأبديّ، في وجودنا الوقتيّ، فلا يبقى لنا أن نتغنّى بأفعالها، ونخلع كل لقبٍ نبيلٍ على رموزنا، استعارةً من معجمها، فلا نتردد في أن نسمّي البطل hero ، تيمّناً باسمها، أو السيد (في الألمانية) herr أو نطلق على أنبل الطير، الذي تحزّب للأب في الخصام مع شقيق الأب (في الميثولوجيا المصرية)، إسم: Horos (حرس)، أو كلّ من ارتضى لنفسه رسالة أن يكون حامي حِمَى مثل هرقل Hercules المركّبة من كلمة hor الدالّة على الحامي، و«كال» (بإسقاط السين اليونانية كعلامة لأسم العلم)، الدالّة على: الوطن. ففي الليبية القديمة إسم «الباب»، بوصفه حامي حمى البيت يسمّى: hor في حال المذكّر، أو «تاهورت» في الحالة الثانية، أي البوّابة.
هنا نلاحظ الكيفيّة التي استطاعت بها الديانة الطبيعة أن تنتج مفهوماً معنوياً رفيعاً لمبدأ الهيمنة إجمالاً، لمبدأ السلطة تحديداً، لتصير الـ هرو، أو oro، رديفاً شرعيّاً لسلطان المُلك. فمازال ملوك أمّة الملثّمين في الصحراء الكبرى يستخدمون تعبير «أورغ» للبرهنة على ملوكهم المخوّلين في العادة لأن يحكموا (لأن الحُكم استعارة من الحِكمة)، دون أن يكون لهم الحقّ في أن يملكوا، يقيناً منهم بأن المِلْكيّة هي ما لا يليق بصاحب مُلّكٍ يستعير صلاحيّاته من المعبود (تيمّناً بمعبود أسلاف الديانات الطبيعية: الشمس). أمّا حرف الغين في كلمة «أورغ» فهو إبدال شائع من الواو في اللغتين المصرية والليبية القديمتين، والمثال: أساهغ (لحون الحنين إلى الوطن الضائع) هي في المصريّة: أساهو، كناية عن الوطن المفقود، الوارد في كتب التوحيد في صيغة الفردوس المفقود). وليس للملك الحكيم إلّا أن يتحلّى بخصال الشمس، كي يفلح في إدارة شئون الرعيّة، لا في حرف سجيّتها الطبيعية وحسب، ولكن في إلهامها النبويّ، لأن صاحب الملك، في العالم القديم، كان دوماً، سليل رؤيا، أي بمواهب رئيّ.
العربيّة أيضاً استجارت بتميمة الأجيال المجسّدة في بُنْية oro هذه، لتستعير منها مفهوماً في غاية الخطورة وهو: الحريّة. فكلمة: هور، المشتقّة من جذر ساكن هو الرّاء، الدالّة على مبدأ الحماية، أو الوصاية، إنّما هي: حُرّ، بإبدال شائع بين الهاء الحامية المعتمدة في المصرية والليبية، والحاء السامية المعتمدة في العربية. ولو تأمّلنا الدلالة لأيقنّا بصواب المنطق: فمن هو الجدير بأن يتولّى الحماية، إن لم يكن الإنسان الطليق، المشرف على قومٍ، أو على وطنٍ، أو على سجينٍ، ليؤمّن من حاجة، أو ليجير من جور؟
من المعلوم أيضاً أن الراء في هذا التركيب المرجعيّ السخيّ ( oro) هي المركز، هي الجذر، لسبب بسيط وهو أنه حرف ساكن. والسواكن كما نعلم، هي المرجع في تحليل أي مفردة لغوية، كما ورثنا عن أئمّة الحكمة. ولن يفاجئنا، لهذا السبب، أن تشرّفها كل من الهيروغليفية، وكذلك التيفيناغ، كأبجديّة ورثت حروف الليبية القديمة، فتلفّق من ( O )، أي الشكل الدائري، علامةً دالّةً على حرف الراء المكتوب تأكيداً على الطبيعة القدسية للذخيرة التي تسكنه. أمّا الحروف الصائتة في التركيبة، فهي مجرد تقاسم في أوتار المعزوفة، وُجدت كي تؤدّي دور النوتة الموسيقية، استجابةً لتوق الأوائل للنغم، حيث اعتادوا أن يمارسوا الكلم ملحوناً، إشباعاً لظمأٍ غيبيّ خالد إلى الشعر، أي شغفاً بالغناء، لا طلباً لطرب، ولكن لهفةً للتّرنّم بصنوف التراتيل، في مديح ربّ الأرباب في محفل التاسوع.
هذا في حين تهيمن مفارقة في معادلة بعبع الذهب: فهو كمعدن وحده معصومٌ من الصدأ، ولكنه، برغم هذه الخاصيّة، وحده الأكفأ في جعل الروح تصدأ!
وهو ما يعني أننا لا نتردّد في أن نمزّق بطن أمّنا الأرض طلباً لذهب الباطل، بدل أن نفتّش في نفوسنا عن حقيقة الباطن المجبولة بذهب الروح الذي يسكننا، كي نعي أخيراً أن غنيمة كنز الباطل هي: السلطة. أمّا غنيمة الباطن فهي: الحرية!
والحريّةُ وحدها فِدْية الحقيقة.