أثار مشهد الانسحاب الأميركي من أفغانستان والفوضى والذي صاحبته بضمنه السقوط السريع للحكومة الأفغانية وهروب رئيسها خارج البلاد وتزامنه مع سيطرة تنظيم طالبان على معظم الأراضي الأفغانية، وبينها العاصمة كابل، تساؤلات ومقارنات عراقية كثيرة بخصوص احتمال تكرار السيناريو الأفغاني في العراق.
بعض هذه التساؤلات والمقارنات مرتبط برغبة حقيقية في المعرفة، وربما بوجود قلق حقيقي، فيما بعضها الآخر كان مهتماً بتحقيق الانتصارات الأيديولوجية المعتادة ضد الولايات المتحدة كما في بعض إعلانات المنضوين في "محور المقاومة" الذين استخدموا وجود الحشد الشعبي على أنه الضامن ضد تكرار مشهد الانهيار الحكومي الأفغاني في العراق.
وكالعادة، فإن أولى ضحايا الانتصارات الايديولوجية هي المعرفة الدقيقة والموضوعية إذ تهيمن، في خضم نشوة هذه الانتصارات المتخيلة، المشاعرُ والرغباتُ على الوقائع والحقائق وتسود لغةُ الشجب والأحكام الأخلاقية الجاهزة على لغة التحليل وتفحص الوقائع في ضوء الأرقام والبراهين المنطقية.
من الصعب جداً، بل يكاد يكون مستحيلاً، أن يحدث في العراق ما حدث في أفغانستان لأسباب مختلفة، مؤسساتية وسياسية.
مؤسساتياً، هناك مؤسسة عسكرية وأمنية عراقية فيها قدر معقول من التماسك، بعد أن تجاوزت، بفضل جهود إصلاحية عراقية ودعم إقليمي ودولي، كارثة 2014 حين انهار جزء كبير من الجيش العراقي في أعقاب سقوط الموصل بيد تنظيم داعش.
بعكس السيناريو الأفغاني، لم يكن انهيار الجيش العراقي حينها مرتبطاً بوجود عدو قوي له داخلياً أو خارجياً، فتنظيم داعش قبل سقوط الموصل، كان تنظيماً سرياً، يعتمد أسلوب التفجيرات والعمليات السريعة التي تعتمد على الكر والفر، ولم يكن نداً عسكرياً للجيش العراقي.
كان الانهيار العسكري العراقي حينها مرتبطاً بأسباب مؤسساتية داخلية، وليس تهديدات خارجية، بالفساد والمحسوبية وضعف الكفاءات القيادية وتسييس عمل الجيش وضعف معنويات أفراده.
قادت هذه كلها إلى الانهيار الذي استفادت منه داعش كثيراً، وعبره تغولت كقوة عسكرية، خصوصاً بعد أن غنمت آلاف المركبات والمدافع والدبابات وغيرها من قطع السلاح الأميركية التي تركها الجيش العراقي في الموصل.
باستخدام هذه الأسلحة الجديدة تمددت داعش سريعاً في سورية والعراق وسيطرت على الكثير من الأراضي الأمر الذي مَكَنها إعلان "الخلافة الإسلامية" في الخامس من يوليو 2014 بعد نحو ثلاثة أسابيع من سقوط الموصل.
كان الفشل المؤسساتي للدولة العراقية هو المادة الأولية التي أستندَ عليها صعود تنظيم داعش. على مدى سنوات القتال بين عامي 2014 و2018 لدحر تنظيم داعش وانتزاع الأراضي العراقية التي سيطر عليها، استعادت المؤسسة العسكرية العراقية الكثير من عافيتها وفاعليتها وتجاوزت صدمة الفشل الفظيع في الموصل 2014.
في أفغانستان، كان الفساد والتفكك في القوات المسلحة كبيراً وواضحاً وتواصل تصاعدياً مع اقتراب موعد الانسحاب الأميركي.
فكثير من العسكريين لم يستلموا رواتبهم على مدى أشهر، والذين يسقطون قتلى في قتال طالبان (نحو 70 ألف عسكري وشرطي على مدى 20 عاماً)، لا تُعوض عوائلهم في الغالب، هذا فضلاً عن ظاهرة العسكريين الفضائيين الموجودين فقط على الورق.
في الفترة الأخيرة، كانت طالبان تدفع مبالغ مالية لضباط قياديين في الجيش الأفغاني، على شكل رواتب منتظمة، كي لا يصدروا اوامرَ القتال لجنودهم المتبقين.
في آخر الأمر، سلم الجيش الأفغاني المدن لطالبان من خلال التفاوض الذي لم يستمر طويلاً واتخذ شكل الاستسلام الذي لم يعرض حياة هؤلاء القادة العسكريين وجنودهم للخطر. القوات العسكرية الافغانية الوحيدة التي ظلت متماسكة ولم تخسر معركة واحدة ضد طالبان هي قوات الكوماندوز، المرادف الأفغاني لقوات مكافحة الارهاب العراقية.
تلقت هذه القوات التي تراوح عددها بين 20 و30 ألف عسكري تدريباً وتسليحاً أميركياً خاصاً وخاضت معارك كثيرة ضد طالبان دون أن تخسر واحدة منها.
رفَضَ معظم أفراد الكوماندوز هؤلاء، الذين يخشون من انتقام طالبان منهم بسبب الخسائر الكبيرة التي الحقوها بها على مدى سنوات القتال الطويلة، تسليمَ أسلحتهم وأنفسهم ولجأ بعضُهم بمعداتهم العسكرية إلى وادي بانشير في شمال البلد الخارج عن سيطرة طالبان، لمقاومة تقدم الأخيرة في قصة ما تزال مفتوحة على فصول جديدة.
التحدي الأساسي للنظام السياسي في أفغانستان جاء من خارجه وتمثل بوجود عدو قوي له، مسلح عسكريا ومتماسك تنظيمياً، وذو امتدادات شعبية واسعة، هو تنظيم طالبان.
في العراق لا يوجد مثل هذا التحدي للنظام السياسي، فتنظيم داعش اليوم قوة مسلحة محدودة مهزومة ومختبئة، ولا تمتلك أرضاً يتحرك فيه بحرية، فضلاً عن فقدانه أي امتدادات شعبية حقيقية في المجتمع العراقي. بعكس أفغانستان، لن يؤثر أي انسحاب عسكري أميركي على استمرار النظام السياسي العراقي في الحكم.
في الحقيقة، أن التحدي الأساسي الذي يواجهه النظام السياسي العراقي ليس أمنياً، بل هو سياسي ومؤسساتي ويأتي من داخل هذا النظام نفسه لا من خارجه. إنه تحدي ضعف شرعية هذا النظام أمام العراقيين كشعب، بسبب هيمنة الإقطاع الحزبي على الدولة والموارد وما قادت إليه هذه الهيمنة من استشراء الفساد وسوء الأداء وتردي الخدمات وغياب الفرص الاقتصادية.
ظهر ضعف الشرعية هذا واضحاً عبر حركة الاحتجاج التشرينية التي عَرَت هذا النظام السياسي ووضعته أمام اختباراته الأشد والأصعب التي لم يخرج منها والمفتوحة على نتائج مختلفة في المستقبل.
سيكون أقطابُ هذا النظام السياسي سعداءَ فعلاً ببروز تحدي أمني أو إرهابي كبير جديد له، كتحدي طالبان في أفغانستان، سواء عبر داعش أو القاعدة أو غيرهما، لأنهم حينها سيستطيعون إبعاد أنظار الناس عن فساد هذا النظام السياسي وفشله المريع في إدارة الدولة، باسم الدفاع عن البلد ضد هذا العدو الجديد.
النظام السياسي العراقي، بأحزابه الإقطاعية المتحاصصة فيه، بارعٌ جداً في القتال والتحشيد له والمبالغة في تخويف الناس من أعداء حقيقيين أو وهميين، وفاشل جداً في الإصلاح والبناء والتنمية وتصحيح الأخطاء. سيكون مَقتله الأخير في هذا الفشل الذي لا يبدو قادراً على تجاوزه.