لتفكيك بُنية الأحجية في الأرومة ليس لنا إلّا أن نحتكم إلى لسان البداية في صياغة سرّ النواة الأولى، لأن اللغة مازالت حُجّتنا الوحيدة في استكشاف حقيقة الوجود.
فعندما نتساءل عن ماهية الكينونة، الكامنة في كلمة «كون»، فإنها، في منطق لغة التكوين، تركيب ملفّق من حرف ساكن جسيم الدلالة هو الـ"كاف"، التي تعني في المصرية القديمة، كذلك الليبية القديمة: الجسد، الجرم، أو الجذر، أو كل ما متّ بصلة لفاكهة منتجة بحرف الحسّ. أمّا الـ"أون"، فهي نفسها الـon الدالّة في لغات العالم القديم، بما في ذلك العربية، على: التعالي، أو الاستواء، (لأن الـ"أون" في معجم ابن منظور تعني: سكن، أي استوى).
فكلمة "فرعون" كانت في الأصل المصري "برعون" أو "برأون"، لإبدال شائع بين الفاء والباء في اليونانية وغيرها من اللغات المنبثقة عنها. وهي تركيب يعني بالترجمة إلى منطق حداثي "البيت العالي" (برت = بيت، و الـ= on الرفيع، العالي). وهو التعبير الشائع نفسه الذي استعارته الأمم تالياً كمصطلح للتدليل على عظمة شأن أُولِي السلطان؛ وآخر من تغنّى به في أدبيّاتهم هم سلاطين الامبراطورية العثمانية، حتى كاد يغدو صفةً من صنيعهم.
أمّا في السومرية فإن حرف الكاف، بإضافة حروف صائتة، يتحوّل: "إكي"، الدالّ على إله الأسافل، الأرض، والمياه، وكل ما أخفته اليابسة. وبقايا قدماء الليبيين، أهل الصحراء الكبرى، مازالوا يستخدمون كلمة "إيكي" للتدليل على كل ما متّ بصلة لعالم الجذور، أي الأسافل، وكل ما هو أسفل الأسافل. وهكذا نفوز في "كون" بجملة مفيدة وجديرة بأن تستثير فضولنا هي: الجذر العالي، أو الجسد الرفيع، أو كيان الاستواء، كناية عن المعجزة التي نسمّيها كوناً!
أمّا في اليونانيّة فيرد التكوين في صياغة شعرية هي genesis. وهو تركيب ملفّق أيضاً من شقّين: gen، الشائعة في الاستخدام كـ"جينوم"، أو جينات، أي جرثومة كل شيء، في حين يفاجئنا المنطق البدئي بالمدلول الفعلي مترجماً في فعل: جثم، أو تجسّم، أي كل هيكل، أو كيان، استوى في جرم محسوس!
ولكن وجود هذا الجسم في الواقع ليس جثماناً (لاحظوا معي أن الجثّة، أو الجثمان، اشتقاق من "جثم")، ولكن وجوده مدجّج بمؤهّلات حضور. هذا المؤهّل تهديه لنا كلمة esis اليونانية، الدالّة في منطق البدايات على: الامتلاء. وهكذا نحصل على معنى البُنْية العبقرية وهو: الكيان الملآن، أو الجثمان المسكون، كناية عن الكينونة.
وما يهمّنا في هذا التحليل هو شغف إنسان البدايات بمبدأ الإستواء، أو العلوّ، في كل وضعيّة وجوديّة، حيث لا يكتفي المنطق هنا بتحديد واقع مّا في بُعْد الحسّ، ولكنّه يحرص على استنزال قيمة في هذا الواقع، من خلال الشقّ الثاني في البُنْية التعبيرية، المسكونة دوماً بنواة، المحكومة دوماً بإيماء غيبيّ. فاسم الوجود، سواء في صيغة كـ"كون"، أو في صيغته كـ"genesis"، هو احتفاء بوجود بروز رأسيّ، يخترق سطح اليابسة، مستقيماً، في بعثه الجَسور من العدم، في كيان ليس له إلّا أن ينتحل بُعداً عموديّاً، أي في منطق التقوى، بعداً استكبارياً، وهو لهذا السبب آثم.
وكي تتنصّل عقليّة، مثقلة بهاجس التقوى كالبدئيّة من هذا الإثم، تستجير بتلابيب الاستواء، في نيّة للتكفير عن خطيئة التطاول، الكامنة بالطبيعة، في كل تكوين خدش بوجوده بكارة الفطرة الأولى، ممّا يبرهن على حقيقة موجعة، وهي أن الإحساس بالخطيئة الأولى، ورمٌ فطريّ في روح الإنسان، وُلد مع ميلاد الحدس في الإنسان، وسابقٌ على الوعي بالوجود في الانسان. وعلّ الإصرار على إضافة مبدأ الاستواء، الدالّ على الخشبة القدسيّة، المعبّرة عن روح التسليم، لكل اسم دالّ على انبثاق أمر جلل كالكينونة، هو برهان على ظمأ للتكفير عن القبول بمبدأ الحلول: الحلول ضيفاً، غير مدعوّ، وغير مرغوب فيه، على وجودٍ، من الطبيعي أن يكون معادياً لهذا السبب.
هذا الجدل المحموم بين وجودٍ رهين البعد العمودي بمشيئة الطبيعة الأمّ، وأسير الانكسار في استواء تمليه حتمية الأفق، هو ما نصّب الصحراء كمسرح يصالح الضدّين بتميمة التسليم، ليبدع منهما صيغة معبد أسطوريّ، لا يعود، بهذه الموهبة، سطح يابسة، ولكنه يستعير هوية روح مجسّدة. وعلّ أقوى دليل على اعتماد صيغة التسطّح، المترجمة في حرف التصحّر، هو اصطفاء البيداء، من دون كل أركان المسكونة، لتكون ملجأ مريدي الحقيقة، فتجود على الأخيار بالوحي المقدّس، الذي ألفناه في معاجمنا باسم: النبوّة!
فالشغف بالتسطّح، بالتبسّط، بالاستواء، بطولة لمحو الخُيلاء في كل جرمٍ كشّرَ عن زوايا، في مغامرة الطقس المجلل بالتسليم، لغاية تيسير المنعطف في وثبة الانكفاءة المثلى، لاختطاط الشهادة في صحيفة النظام الأفقي، لتحقيق استدارة البعث في سورة "العَوْد الأبديّ". وما القباب التي تتوّج شعاف دور العبادة سوى فرارٍ من تجديف الأعمدة، وطلب محموم لاستنزال روح الألوهة في ناموس الـmandala، في ناموس الدائرة" والصحراء هي القبّة الملفّقة بمشيئة الطبيعة الأموميّة، المجسّدة على ظهر اليابسة، لكي تكون للرؤى السماوية وطناً، ولمعجزة الوحي منزلةً.