التذمر الشعبي من التدخلات الإيرانية في شؤون العراق وصل إلى مراحل خطيرة لم يعد العراقيون قادرين على تحملها. ومنذ عامين، أصبحت المواجهة دموية، بين الطبقة السياسية الحاكمة التي تدعمها إيران، وجماهير الشعب العراقي، ممثلة بجيل الشباب التائق للحرية والحياة العصرية اللائقة.

لكن التذمر الآن تعدى شريحة الشباب الواسعة، وتجاوز طبقة المثقفين والأكاديميين والناشطين والسياسيين، ليصل إلى رجال الدين، الذين يفترض بأنهم الأقرب إلى النهج الذي تتبناه الجماعات الدينية الحاكمة. فقبل أيام ألقى وكيل المرجع الشيعي الأعلى، علي السيستاني، رجل الدين البارز، حميد الياسري، خطبة أمام مئات العراقيين ونقلتها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وضع فيها النقاط على الحروف، واصفا الموالين لدولة أخرى بالعملاء والخونة.

لقد أعلن الياسري أثناء مناسبة دينية في مدينة الرميثة، وبلغةٍ صريحةٍ لا يشوبها الغموض، بأن من يوالي دولة أخرى إنما هو "خائن وعميل" بل قال إنه "لا دين له"، الأمر الذي أثار الحماسة بين مئات الحاضرين الذين أخذوا يهتفون بصوت عال "نعم نعم للعراق"، وبقي الياسري يهتف معهم لبضع دقائق.

وأضاف الياسري أن هؤلاء، ويقصد الإيرانيين وأتباعهم في العراق، "دينهم يختلف عن ديننا، وحسينهم يختلف عن حسيننا. ديننا هو دين السماء، ودينهم هو دين الأصنام. الحسين الذي ننتمي إليه ونحيي ذكراه هو الحسين بن علي وفاطمة، والحسين الذي ينتمون إليه هو ابن الشمر (قاتل الحسين) الذي يسرقوننا تحت عباءته"!

وقال الياسري إن كلماته هذه ستكون بمثابة "رصاصات تضرب صدور الخائنين والمتقاعسين"، وإن هناك من سينقلها إلى أسياده عبر الحدود وحينها "سيفتي المفتي بقتلي وقتلكم، تماما كما قتلوا الفقراء الذين طالبوا بحقوقهم فاتهموهم بالعمالة ثم قتلوهم".  وقد دعا العراقيين إلى التحلي بالشجاعة واستلهام الدروس من الإمام الحسين، "وألا يخشوا أحدا، بل يجب أن يتصدوا لكل من يتلاعب بمقدرات الدين والوطن".

واستشهد الياسري بأحاديث شريفة وما سمّاه "نهج الصالحين" قائلا إن "من يوالي غير وطنه خائن"، مشددا أن هذه الكلمات هي "رصاصات ستضرب قلوب الخائنين والمتقاعسين وسوف تعود لتضرب قلبي وقلبك". وحذر من خطورة الوضع الحالي "الذي يحتاج إلى الصوت والكلمة والشجاعة".

والسيد الياسري رجل دين يتمتع باحترام كبير في الفرات الأوسط لاعتداله وانتمائه الوطني، وارتباطه بثقافة منطقته المعروفة بحسها الوطني الرفيع وانتمائها العراقي الراسخ، إذ يتميز أهلها بالشجاعة والإقدام، وكانت الشرارة الأولى لثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني قد انطلقت منها، تلك الثورة التي قادت إلى أن ينال العراق استقلاله من بريطانيا عام 1921. لكن هذه المنطقة تتعرض منذ عام 2003 لمحاولات إيرانية حثيثة لتغيير ثقافتها العربية العراقية، وترسيخ الخرافات بين أبنائها وإفقارهم ودفعهم للانخراط في المليشيات والنشاطات الطائفية التي تنبذها ثقافة المنطقة.

وينتمي الياسري إلى عشيرة (آل ياسر) المنتشرة في عموم العراق، والتي يحظى أفرادها باحترام واسع في المجتمع، وقد برزت منها شخصيات وطنية مرموقة خلال القرن المنصرم، منهم السيد نور الياسري، أحد أهم قادة ثورة العشرين، والذي ذهب مع مجموعة من وجهاء العراق إلى الحجاز عام 1920 وكانوا بضيافة شريف مكة، وعادوا إلى بغداد ومعهم الأمير فيصل بن الحسين، الذي توج ملكا على العراق في 23 آب 1921. ولأن السيد الياسري يمثل المرجع الديني الأعلى، ولأنه ينتمي بنسبه إلى الأشراف، فإنه يمتلك سلطة دينية، تضاف إلى سلطته المعنوية والاجتماعية.

لا شك أن موقف الياسري موقف وطني وشجاع، وسوف يكسبه سلطة معنوية جديدة، لكن هذا الموقف لم يأتِ من فراغ، بل هو منسجم تماما مع الموقف العام لعموم الشعب العراقي الذي عانى كثيرا من التدخلات الإيرانية في شؤونه خلال العقود الخمسة المنصرمة، والتي تسببت في حروب عبثية ودمار وحصار دولي، ويعاني الآن من استهتار المليشيات، التي يدعمها النظام الإيراني، بالقوانين والأعراف والأسس التي تقوم عليها الدولة، فلم تتردد في قتل الأبرياء وخطف الناشطين وأصحاب الرأي وسرقة المال العام وتزوير الوثائق وتهريب النفط والعملة والبضائع، وفرضِ الإتاوات على الناس وتلقي الرشى وبيع المناصب.

ويُسجَّل للمرجع الشيعي علي السيستاني أنه أطاح بحكومة عادل عبد المهدي بعد أن أوغلت في دماء الشبان المتظاهرين وتسببت في مقتل المئات منهم وجرح عشرات الآلاف أثناء احتجاجات دامت ستة أشهر وما كانت لتنتهي لولا اندلاع جائحة كورونا مطلع العام الماضي. كما يُسجل للمرجع السيستاني أنه نصح الائتلاف الشيعي باستبدال نوري المالكي كرئيس للوزراء عام 2014، بعد سقوط الموصل في قبضة تنظيم داعش الإرهابي، وكان قد نصح قبل ذلك باستبدال إبراهيم الجعفري عام 2006، الذي حاول التمسك بمنصبه رغم اعتراض معظم الكتل السياسية الشيعية والكردية عليه.

رجال الدين المستقلون وغير السياسيين يصطفون مع مطالب الشعب، لكن السياسيين منهم، والمسيسين، وهؤلاء في الحقيقة يرتدون الزي الديني لأسباب سياسية بحت، يصطفون مع الجماعات التي تخدم مصالحهم الشخصية، فكثيرون منهم استفادوا من هذه الاصطفافات وأصبحوا نوابا ومحافظين ومستشارين وأعضاء مجالس محافظات ووزراء وأثرياء، وقد أصبح أحدهم نائبا لرئيس الجمهورية، رغم أنهم يخلعون الزي الديني عند توليهم المناصب التنفيذية، لكنهم يبقون عليه في البرلمان ومجالس المحافظات.

مشكلة العراق مع إيران ليست سهلة الحل، فإيران لديها أطماع في العراق منذ زمن بعيد، وبالإضافة إلى الأطماع التأريخية، فإن النظام الحالي هو نظام أيديولوجي توسعي، وقد رأى العالم تمدده في لبنان وسوريا واليمن وفلسطين بالإضافة إلى العراق، مرة باسم الدين ومرة باسم القضية الفلسطينية وأخرى باسم الطائفة الشيعية وعاشرة باسم نصرة المظلومين. ولأن العراق يضم أهم مراقد أئمة الشيعة، فإن النظام الثيوقراطي الإيراني يولي أهمية قصوى للهيمنة على العراق كي يكتسب شرعية دينية ومذهبية، لكن مثل هذه الهيمنة تبتعد عنه يوما بعد آخر نتيجة لتصاعد مقاومة العراقيين لأي تبعية لإيران.

وعلى الرغم من الإمكانيات الكبيرة التي تتمتع بها إيران كدولة مترامية الأطراف وتمتلك موارد كبيرة واقتصادا متنوعا، لكن العقوبات الدولية عليها وأطماع النظام الثيوقراطي التوسعية، وسوء إدارته للدولة، وتبديده ثرواتها على قضايا تتعارض مع مصالح شعبه، مثل تصدير الثورة إلى البلدان الأخرى، عبر المليشيات المسلحة والتدخل في شؤونها السياسية والاقتصادية، قد أفقر إيران وجعل الحياة فيها صعبة، وهذا سيدفع الشعب الإيراني، إن عاجلا أو آجلا، إلى مناهضة النظام وإضعافه وتغييره.

إيران سوف تتضرر كثيرا من تدخلها في العراق، فمعظم العراقيين الآن يدركون أن الأطماع الإيرانية المتسترة بالمذهب هي أطماع قومية توسعية تهدف في النهاية إلى إلغاء الدولة العراقية أو جعلها كيانا هزيلا يتحكم به قادة إيران حسب أهوائهم ونزواتهم. وإن كان الشباب قد قادوا الثورة ضد أتباع إيران في العراق، فإن جبهة المعارضة للتبعية الإيرانية اتسعت الآن لتشمل باقي فئات الشعب بمن فيها رجال الدين.

إشارة السيد الياسري إلى أن "المفتي خارج الحدود سوف يفتي بقتلي وقتلكم" عميقة جدا، فالعراقيون يعرفون أن شبابهم ونشطاءهم ومثقفيهم وأصحاب الرأي منهم، الذين تعرضوا للقتل والخطف، إنما قتلوا بفتوى شفوية إيرانية، أُبلغت إلى المسلحين في العراق عبر قنواتهم الخاصة. السيد الياسري يعرف ذلك باعتباره فقيها متخصصا، وقد آن الأوان لباقي رجال الدين العراقيين أن يتخذوا موقفا شجاعا مماثلا لموقف حميد الياسري. المتطرفون دائما يقتلون وفق فتاوى دينية، والإرهابيون الذين قتلوا 120 ألف بريء في الجزائر في التسعينيات، معظمهم من الأطفال والنساء، فعلوا ذلك بفتوى من شيخ مقيم في لندن!

ثورة العشرين بدأت من الرميثة، وقد أطلق عليها العراقيون (ثورة شعلان) نسبة إلى الشيخ شعلان أبو الجون الذي اعتقلته السلطات البريطانية في حزيران عام 1920، فهاجمت عشيرته (الظوالم) السجن وقتلت الحراس وأطلقت سراحه، وكانت تلك الحادثة الشرارة التي أشعلت الثورة، وأصبح شعلان رمزا لها. وها هي الرميثة تتحول من جديد إلى معقل للتحرر من الهيمنة الإيرانية والسلطة الفاسدة التابعة لها، والمطلوب الآن أن يتضامن المجتمع الدولي مع العراقيين كي يتمكنوا من نيل حريتهم.

لكن التعويل على المجتمع الدولي وحده، لحل مشكلة الشرق الأوسط مع إيران ليس كافيا، والمطلوب أن تنسق دول المنطقة جهودها لإيقاف التمدد الإيراني، وهي قادرة على ذلك، وحينما يرى المجتمع الدولي قوة إقليمية قادرة على المواجهة، فإنه سوف يدعمها، خصوصا مع استمرار الموقف الإيراني المعادي لدول المنطقة والولايات المتحدة.

وحتى روسيا والصين لا تعتبران إيران حليفا حقيقيا لهما، فروسيا تخشى التمدد الإيراني في مناطق نفوذها، وتخشى تسلحها النووي، بالإضافة إلى منافستها المنتجات الروسية في أسواق الطاقة العالمية، كما تخشى احتمالات دعم إيران متطرفين على أراضيها، خصوصا إذا ما تعززت قوتها مستقبلا. أما الصين فإن لها مصالح في دول آسيا وأروبا تتعارض مع التوجهات التوسعية الإيرانية، وقد رأينا أن جماعة صينية استخدمت اسم إيران لاختراق كمبيوترات الحكومة الإسرائيلية، الأمر الذي كان سيوقع بين إيران وإسرائيل لولا انكشاف تلك الخدعة. 

يواصل النظام الإيراني خلق الأزمات كي يوجد مبررا لوجوده وقمعه معارضيه في الداخل بحجة التهديدات الخارجية. لكن قدرته على مواصلة نهجه الحالي، الذي سبب أزمات إقليمية ودولية ومصاعب اقتصادية وسياسية ولوجستية للإيرانيين، محدودة. فالإيرانيون ملّوا من مغامرات هذا النظام ونهجه المعرقل لتقدمهم والتحاقهم بركب العالم المعاصر، ودول المنطقة نفد صبرها مع نظام لا هم له سوى خلق الأزمات، وزعزعة الاستقرار، وبث الفرقة والانقسام بين شعوب المنطقة.

الوجود الإيراني في العراق لن يكون بلا ثمن، خصوصا مع تصاعد التذمر من التدخلات الإيرانية في شؤون العراق، وبالأخص تزايد هجمات المليشيات الإيرانية على قوات التحالف الدولي والسفارة الأمريكية، وتزايد عمليات التخريب في قطاعات الكهرباء والزراعة والتجارة والأسماك والدواجن، والتي تؤشر الأدلة إلى أن إيران تقف وراءها بهدف جعل العراق ضعيفا ومعتمدا كليا على وارداته منها. هناك مصلحة دولية وإقليمية لمواجهة إيران وإيقافها عند حدها، وفي خلاف ذلك سوف تستمر معاناة دول المنطقة وشعوبها، وتتفاقم مشاكلها وأزماتها.