هيمنت على وسائل الإعلام وأحاديث الناس ونقاشات السياسة في الأيام القليلة الماضية المشاهد الصادمة للدخول السريع لمقاتلي طالبان إلى العاصمة الأفغانية كابل والفوضى والتدافع في مطار العاصمة، حيث حاول ألاف الأفغان الهروب من البلاد باستخدام طائرات عسكرية أميركية لم تكن متيسرة لهم.
بالنسبة لكثيرين تابعوا هذه المشاهد كان الدرس الأهم بالنسبة لهم هو إثبات موقف أيديولوجي مسبق بخصوص عبث التعاطي مع الولايات المتحدة كشريك جاد أو الاعتماد عليها كحليف وثيق، إذ هي غالباً ما تتخلى بسهولة عن حلفائها ولا تقف معهم في ساعة الضيق والحسم وكانت المشاهد الأفغانية دليلاً إضافياً على هذه "الحقيقة الراسخة".
عبر مثل هذه التحليلات المستعجلة والسطحية غالباً، لا يجري نقاش الموضوع الأصلي، أفغانستان هنا، للوصول إلى فهم دقيق بشأن الأحداث ونتائجها والاحتمالات المستقبلية المتعلقة بها، بل يُستعاض عن كل هذا بخلاصات إشكالية هدفها هو إعادة تأكيد مشاعر أيديولوجية الطابع بخصوص طرف واحد فيه، الولايات المتحدة هنا، واختصار كل الموضوع بها ومن ثم محاولة تطبيق هذه الخلاصات في بلد آخر، العراق مثلاً.
في آخر المطاف، ننتهي كجمهور بـ"تحليل" لا يضيف جديداً ولا ينير زواية مظلمة ولا يجعلنا أكثر معرفة في التعاطي مع مشاكلنا.
كل حلف أو تعاون فيها طرفان أو أكثر، ومن أجل أن ينجح ويحقق أهدافه المرتجاة لا بد أن تؤدي كل الأطراف المنضوية فيه أدوارها المفترضة فيه. هذه بديهة عند السعي لتحليل أي حدث أو ظاهرة تشترك أطراف متعددة في صناعتها.
أفغانياً، كما عراقياً حيث لأميركا تجربة شبيهة في إسقاط نظام حكم اعتبرته عدوانياً ومضراً بمصالحها واستبداله بآخر تدعمه وتعتبره صديقاً، كانت الأخطاء الأميركية فادحة وكثيرة، لكن الأخطاء الأفغانية والعراقية كانت أكثر وأشد فداحة.
بدأت الأخطاء الأميركية من الافتراض الأول الذي كان يكرره بثقة عالية الرئيس الأسبق جورج بوش أن الديمقراطية رغبة بشرية طبيعية للشعوب، وبالتالي سيتلقفها الأفغان والعراقيون بترحاب، مع بعض الرعاية والدعم الأميركيين مؤقتاً، إلى أن تترسخ في البلدين.
في العادة تنمو الديمقراطية في البلدان التي فيها طبقة وسطى واسعة نسبياً وحواضر مدنية تتشكل فيها هويات الناس على أساس قيم حداثوية تنتج عبر الاختلاط والتعايش والتكيف مع الاختلاف.
لم تكن أفغانستان مهيأة لتجربة كهذه، فنحو 3 أرباع سكانها، البالغ عددهم أكثر من 37 مليون نسمة، يعيشون في مناطق ريفية حضور الدولة المركزية فيها ضعيف، وتهيمن عليها هويات ما قبل الحداثة التي تختلط فيها قيم محلية، عشائرية ودينية الطابع.
ثم كانت العقبة الصعبة وهي غياب الزعماء الأفغان الأقوياء المهتمين بصياغة مواطنة أفغانية حديثة ذات طابع ديمقراطي تلعب الدولة، عبر منظومة الخدمات والمنافع التي تقدمها، دوراً متصاعداً في تشكيلها والحفاظ عليها.
فقد بقي الزعماء الأفغان، كما هو حال أقرانهم العراقيون، زعماءً فئويين، يقودون جماعاتهم العرقية والدينية والعشائرية، ولم يتحولوا إلى زعماء وطنيين يسعون إلى ترسيخ مفهوم الشعب الذي يتساوى أفراده أمام القانون.
بعكس العراق الذي يضغط فيه المجتمع على الساسة لصناعة دولة وطنية تعامل الجميع بمساواة، كما ظهر في احتجاجات تشرين، لا يوجد مثل هذا الضغط الشعبي في أفغانستان، فهذا الضغط نخبوي عموماً هناك ومحدود التأثير.
مع ذلك المشكلة الأكبر في أفغانستان لم تكن انعدام الأفق الديمقراطي، بل الفساد المستشري على نحو عام يفوق حتى مستويات الفساد العراقية غير المعقولة أصلاً.
لعل أشهر قضايا الفساد هناك هي تلك المتعلقة بفضيحة بنك كابل الذي خسر بين عامي 2010 و2013 ما يقارب من مليار دولار من امواله بسبب تعاملات مالية فاسدة كان وراءها محمود كرزاي شقيق الرئيس الأفغاني السابق، حامد كرزاي، الذي حكم أفغانستان نحو 14 عاماً من العشرين عاماً التي قضتها البلاد خارج سيطرة طالبان.
استفاد أقارب كرزاي الرئيس ومقربون منه من هذه الأموال التي لم تستطع الدولة الأفغانية استعادة إلا جزء صغير منها، بحدود 120 مليون دولار.
الفساد لم يشمل الأموال الأفغانية بل تعداه إلى الأموال الأميركية المُنفقة في البلاد.
فطبقاً لمسؤول أميركي متخصص في الحسابات المالية شارك في فريق حكومي أميركي لمراجعة نحو ثلاثة آلاف عقد لوزارة الدفاع الأميركية مع شركاء أفغان، بقيمة 106 مليارات دولار، خَلُصَ هذا المسؤول إلى أن نحو 40 بالمئة من هذا المبلغ الهائل انتهى في جيوب مسلحين متمردين وعصابات إجرامية أو مسؤولين أفغان فاسدين.
ما يساهم في هذا الفساد هو غياب بنية تحتية مصرفية حديثة يمكن عبرها متابعة كيفية صرف الأموال، فضلاً عن عدم توفر معلومات أميركية دقيقة عن الشركاء المحليين الأفغان الذين يتم التعاقد معهم.
مع ذلك، لم تخرج أميركا خاسرة ً تماماً من أفغانستان، إذ هي حققت هدفها الأساسي من الذهاب هناك، والمتعلق بتعقب تنظيم القاعدة وتفكيكه وقتل قياداته.
فأصل الاجتياح الأميركي لأفغانستان لم يكن بناء دولة ديمقراطية رصينة، بخلاف العراق، بل هو رفض "طالبان" في 2001 طلب الحكومة الأميركية منها تسليمها أسامة بن لادن المسؤول عن تدبير تفجيرات 11 سبتمبر وطرد تنظيم القاعدة.
نصَ الاتفاق الأميركي مع طالبان في 2020 على ألا تسمح طالبان بعودة تنظيم القاعدة أو أي تنظيم متطرف شبيه له.
لن يكون من مصلحة طالبان أن تكرر أخطاء الماضي تسمح بتحول أراض أفغانية تحت سيطرتها إلى ملاذ آمن لمنظمات متطرفة مطلوبة غربياً.
أفغانستان بلد فقير، تعتمد نصف ميزانيته، البالغة أكثر من نصف مليار دولار، على المساعدات الخارجية، معظمها غربي، وسيكون صعباً على أي حكومة طالبانية أن تتجاهل لغة الأرقام وتتصرف على نحو يُغضب الغرب والمجتمع الدولي، خصوصاً في ملفات الحقوق الفردية، كتعليم المرأة وعملها والحريات الدينية.
غالباً ما تهزم حاجات الحياة قوة الأيديولوجيا، إلا في حالات العناد الأيديولوجي الذي يُهمش الحياة، وحينها تكون التكلفة على المعاندين باهظة.
أفغانستان ما تزال قصة مفتوحة على نهايات مختلفة، على أساس الدرب الذي ستقرر طالبان أن تسلكه: درب العناد أم الواقعية.
الإسراع الواثق للكثيرين بإعلان نهاية قاتمة ونهائية لقصتها يكشف عن الحماسة والاستعجال، وليس التأني والدقة، في التحليل. نحتاج أن ننتظر ونرى.