أيّ لحنٍ هذا إذا كان النغم فيه يخلو من لمسة مسٍّ، ويعدم فيه الوتر حضور فورة وَجْدٍ، بسبب اغتراب شطحة شجن؟ الواقع أن الرهان، في اللحون، إنّما يسكن هذا اللغز الشجيّ الذي اعتدنا أن ننعته في رطاناتنا باسم الشجن.
فالشجن يقيم في فردوس واحة ذات واقع غيبيّ، يختزن ثروة محكومة بمشيئة رأسمالٍ مترجمٍ في حجّة ببُعدَين: حكمة الماضي، وألم الحاضر.
حكمة الماضي بأيّ معنى؟
الماضي ليس في صيغة الزمن، ولكن في الصيغة التي تهب الزمن معنىً، وهي: التاريخ، حيث تتخفّى تجربة الأسلاف. تجربة بالضرورة حافلة بآلام، بآمال، بجمال، بعلاقات عاطفيّة لا تتردّد في أن تنصّب المحبوب على الوجود معبوداً، كما لا تتردّد، حيناً آخر، من التجديف في حقّ المعبود أيضاً: معبود الحقّ، لا معبود الباطل، المخيّب دوماً للظنّ، ممّا سيعني أن تجربة الماضي جدليّة، تتقاطع في واقعها الملهاة مع المأساة، ولكن الدرس الذي تلقّنه لنا، يبقى تميمة سحريّة، في واقع وجودٍ إنسانيّ يقاوم، بطبيعته الإغترابيّة، مفعول هذه التميمة، بدليل استهانته التقليدية بفحوى التجربة، وعدم استثمارها في كفاح الجيل المميت في سبيل استعادة أمل ضائع بالسليقة، اعتدنا أن نسمّيه الفردوس الضائع، لكي ننزّهه عن واقعنا الأرضيّ، المعادي لروح الشعر، والعاري من فتنة المثال، في حال نعتناه باسمه المتواضع: السعادة!
إنها القيم الجماليّة والأخلاقيّة والروحيّة التي تتباهى بها حكمة الزمن الفاني، لا لشيء إلّا لآنها ليست فانية. تتباهى بها حكمة الماضي لأنها وحدها ليست ماضية، برغم اعتراف أهل الماضي بمُضيّهم، برغم اعترافهم بحقيقتهم الفانية. وهذا وحده بطولة. بطولة كافية لكي تكون حجّة أي لحنٍ فذّ. لأن الإيحاء، في النغمة الموسيقية، بوجود قيمة خالدة، وحده برهان على استحضار تلك السلطة العاتية التي حقّ لنا أن نخلع على جنابها إسم: الشجن!
ولكن قيم الإنسانية الخالدة، ليست سوى جناح واحد لعنقاء لحنٍ ينوي أن يحاجج الآلهة في فنّ الإنشاد، لأن امتطاء معراج المحال، لارتياد أفلاك البُعد المفقود في عالم الوجود، رهين مكوسٍ جسيمة، جذرها سليل أسافل، برغم أن فرعها ينازع السماء طولاً. إنه عرّاب كل بطولة أو أعجوبة أو من نبوّة. إنه: الألم!
الألم هو الضلع الثاني في معادلة البُنْية السحرية التي تصنع المحال: الشجن!
الوحدة في هذه البُنية التعبيرية المركّبة وحدها تجرّد الحرف في الواقع من سلطته على الوجود، لأنها لا تعود معنيّة بفحوى هذا الواقع البغيض، الدّافع لتغريبنا عن حقيقتنا الغيبيّة، لا تعود معنيّة بكل المحيط الطبيعي المرئيّ، لأن رهانها، منذ الآن، على البُعْد الأبديّ في الوجود، رهانها على اللّا وقتيّ، رهانها على المبدأ الروحيّ، رهانها على الواقع العدميّ، لأنّ في هذا البُعد يستطيع المنطق الألوهي أن يدلي بشهادته. والنغمة الشجنيّة في اللحن هي شطحة جنونيّة لاستعادة ما يسمّيه قدماء النُّحاة: الرَّزّ. أي الصوت النائي، الملهم، الذي لا وجود له إلّا في خلوة صحرائي الكبرى، أو في براري الربع الخالي، يأسرنا بمعزوفته الفلكيّة، بمعزوفته الربوبيّة، المنزّلة كنبوءة؛ لأن لا أِنسٌ عزف فيها وتراً، ولا ريحٌ لامسَّت فيها شجراً، ولا خيالٌ استنزل فيها روحاً، ولكنها تنزيلٌ من البعد الضائع في صحراء الوجود. التنزيل الذي يهب العزاء في محنة الوجود. التنزيل الذي يعيد المعنى الضائع لمنفى إسمه الوجود!
هل شجن هذا اللحن عملٌ من صنع الجنّ؟
التجربة علّمتنا أن دسّ شحنة الحكمة الماضية، في شرايين الواقع الدنيوي الآني، المعادي لمبدأ الحضور (الحضور كقرين لسعادة الإنسان على الأرض، كما تسوّقه الديانات الإستسراريّة)، عمل بطوليّ، ببعدٍ غيبيّ، لا يليق إلّا بملل الجنّ!
وها هو الموسيقار والشاعر إبراهيم الموصلي، الذي عاش في زمن الدولة العباسيّة، يتحفنا بسيرة معراج له، يصلح برهاناً على قدرة أهل الخفاء على صنع الإعجاز في شأنٍ عصيّ كبث شفرة الشجن في اللحن.
يروي كيف نزل إلى دهليز بيته مرة ليخلو لمعاندة أوتار عوده، طمعاً في الفوز بلحنٍ جديد، ولكن بلا جدوى. في النهاية استرخى فرأى، بين اليقظة والمنام، مخلوقين متنكّرين في جرميّ هِرَّين، سأل أحدهما رفيقه عمّا إذا كان صاحب الدّار، في هجعته، نائماً، فأجابه الآخر بنعم؛ فما كان منه إلّا أن تغنَّى بلحنٍ، يعترف الموصلي، بأنه مما يستحيل أن يجري على لسان إنس، أو مما يمكن أن يخطر ببال بشر، وعندما انتهى لم ينسَ أن يعلن: «والله لو ألقى هذا الصوت على إنسانٍ لجُنَّ!». وهو ما حدث بالفعل، كما يعترف الموصلي، لأنّه عندما ألقى هذا الصوت على الأَمَة، التي تقوم على خدمته، جُنَّتْ!
بلى! الجنون هبة الأشجان!
إنه نزيف الحاضر، الناجم عن آلام الواقع الدنيوي الحرفيّ، عندما يتحالف مع حكمة الحنين إلى ماضٍ شيمته الفَقْد. فما هو مفقودٌ دوماً هو حلمُ مأمول. وفضيلته في القدرة على أن يكون دليلنا إلى البُعد المفقود، وهي المغامرة التي يتبنّاها الشجن في معزوفته الإغترابية، التي تأسرنا، فلا تكتفي، ولكنها تحرّرنا!
وهي حرية ليست ككل حرية، لأنها الحرية التي تجود بها الصحراء على أجناس أمم، اعتنقت الصحراء وطناً، فكافأتها هذه القارّة، المجبولة بنعيم الروح الإلهيّة، على تلك اللحون، المركّبة من ثالوث، هو ترجمان لوجدانٍ عربيّ وآخر أمازيغيّ، وثالث إفريقيّ، ورثنا عن الأسلاف إسمه في «المرزكاوي» (نسبة إلى واحة مرزك)، ليكوّن معزوفة شجنٍٍ هي بمثابة عهد، يتغنَّى بوجودٍ خارج الوجود، لأن النداء فيه إنّما يعبّر عن حرية ليست ككلّ حريّة، ولكنه تعبيرٌ عن حرية الأبعاد القصوى.
والشجن وحده الترجمان الأمين لحرية الأبعاد القصوى.
استفهام:
أليس الشجن هو مبدع تجربة استمرارية كـ الوَجْد، الذي يفقد فيه المريد الإحساس بالحسّ، ويغترب عن الواقع الحرفي، ليحقق حلم ارتياد جناح المعراج نحو وطن الرؤى السماوية، مبرهناً بهذا على حضورٍ في حرية أبعادٍ قصوى؟