حوالي تسعة أشهر مضت دون أن يُسمح لسعد الحريري بتشكيل حكومته. وتعبير "يُسمح" يعود إلى فعل مقصود مبيّت ونهائي لمنع الرجل من إنجاز مهمته. والاستنتاج بسيط مفاده أن الحريري كُلّف بالمهمة على مضض وجرى بدأب وخبث تعجيزه حتى اليأس، وأن الحريري الذي، من خلال التسوية الرئاسية الملتبسة، قدّم لعون ما لا يجيزه الدستور وما لم يقدّم لرئيس جمهورية من قبل، يدفع هذه الأيام ثمن خطأ تطور إلى خطيئة.
العنوان المزيّف لهذا السلوك موجود في بعبدا يتولاه رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه السياسي بزعامة صهره جبران باسيل. مادة هذا السلوك في الشكل دفاع عن "حقوق المسيحيين"، وهو شعار ناجح ناجع، نهل منذ عودة عون من منفاه عام 2005. من غرائز مسيحية أهدته الدعم ومحضته بكتلة برلمانية وازنة. غير أن مادة هذا السلوك في المضمون تنحصر في صيانة وتدعيم حظوظ "الصهر" في وراثة العمّ في منصبه والسطوّ على أي حكومة ستصل بالبلد إلى برّ الانتخابات في العالم المقبل.
ذلك هو العنوان المزيّف الذي يُتاح لأصحابه التغطرس دون رادع ضد كل القوى السياسية التواقة إلى تشكيل حكومة تنتشل البلد من مصابه ومصائبه. أما العنوان الحقيقي فهو في مكان آخر.
الظاهرة العونية هي حقيقة لا لبس فيها داخل المجتمع المسيحي اللبناني، وتعبّر في اللاوعي الجمعي عن "مظلومية" مزعومة فرضها اتفاق الطائف عام 1989 الذي انتزع صلاحيات من موقع الرئاسة المسيحي ومنحها للحكومة مجتمعة، أي إلى مجلس تنفيذي تجتمع داخله القوى السياسية في البلد. وبما أن رئاسة الحكومة، وفق الأعراف اللبنانية، هي المركز الأول للسنّة في النظام السياسي، فكان يسهل تسويق كراهية طائفية ضد الآخر لاسترجاع حقوق الذات.
التمرين سهل بسيط يستخدمه كل الشعبويين في الماضي والحاضر ويستند على تلفيق روايات تعظّم من حجم الأنصار والمقترعين. وعلى الرغم من أن قوى مسيحية أساسية وتاريخية في حكاية البلد، بما في ذلك البطريركية المارونية، كانت داعما ومؤسسا ورافدا لاتفاق الطائف، وعلى الرغم من تنامي نضجّ ووعيّ داخل المجتمع المسيحي حول أصول الشراكة التي تقادمت عن "ميثاق" بشارة الخوري ورياض الصلح لعام 1943، فإن العونية وجدت لها أصولا وروافد تلهمها نوستالجيا مسيحية لا تعترف بالزمن.
على أن تلك الظاهرة في تطوّرها لا تعتمد على دينامياتها الذاتية حصراً. فتلك البضاعة التي تمنحها حيّزا، لا يمكن أن تسلّحها بالتفوّق الذي يجعل منها موطن حلّ وربط في العملية السياسية في السنوات الأخيرة. وليس عبقرية اكتشاف خصال الدعم غير المشروط الذي يحظى به عون وتياره من قبل حزب الله منذ "تفاهم مار مخايل" عام 2006، فعظّم من شأن الذاتي وضخّ بها جرعات الغرور والتعجرف والاستهزاء بكل الطبقة السياسية في لبنان.
لا يمكن لحزب الله الذي يفاخر علنا بالولاء التام لجمهورية الوليّ الفقيه في إيران أن يجد حليفا وفيّا مخلصا مُذعنا داخل الوسط المسيحي كالذي وجده في عون وصحبه. برر عون كل الأدوار التي قام بها الحزب، وكل الآثام التي ارتكبها داخل لبنان، وكل الحملات ضد العرب والعالم التي شنّها من لبنان، موفّرا في الداخل اللبناني كما لدى الدائرتين العربية والدولية غطاء سياسيا مسيحيا لا لبس فيه. بالمقابل ثمّن الحزب انجازه في "مار مخايل"، وسمّن نفوذ شريكه في ذلك "التفاهم". وقف داعماً له حين منع تشكيل الحكومات دون عضوية "الصهر"، أو حين أقفل قصر بعبدا وردع أي انتخابات لا تأتي بميشال عون، فقط، رئيسا للجمهورية.
ليس صحيحاً أن حزب الله يجاري عون، بل أن الأخير وفريقه يتحركان فقط ضمن الهامش الذي يتيحه هذا الحزب. يُروى أن عون قد رفع من سقف مطالبه حين كان الفرقاء اللبنانيون يتفاوضون في الدوحة لانتاج التسوية الشهيرة عام 2008. وحين أفضت الاتصالات إلى تسهيل طهران أمر تلك التسوية، فرض حزب الله على حليفه انهاء الجدل وتوقيع الاتفاق. وعلى هذا، فمتاح للحليف التعنت والتعطيل ورفع السقوف طالما أن أجندة الحزب ومن خلفه طهران تبيح ذلك ولا تردعه إرادة مضادة يكفي أن تومي بها.
أسقط ميشال عون سعيّ سعد الحريري برعاية ودعم كاملين من حزب الله. جرت مدارة الأمر خلال أشهر التكليف وفق واجهات خبيثة لم تخجل من الاستهتار بحال الانهيار الذي يفتك بالبلد. جرى الحرص على تكرار تسريبات مضجّرة تبالغ في تأكيد تمسّك الحزب بالحريري ودعمه في مهمته. وجرى أيضا خروج أمينه العام متصنعا الحياد في شأن يفترض أنه يمتلك مفاتيحه، طالباً وساطة شريكه زعيم حركة أمل نبيه بري. وجرى أيضا ضخّ أنباء لا تحترم العقول عن مشادات حصلت بين جبران باسيل وبين موفدين من الحزب (وفيق صفا وغيره) للإيحاء بأن الحزب يسعى ويستميت من أجل الحلّ دون طائل.
لم تأت أي إشارة من طهران تعطي الضوء الأخضر لقيام حكومة يرأسها الحريري كي يتحول سعي الحزب "الدؤوب" إلى أمر عمليات حازم. تفاوض إيران أميركا في فيينا، فيما واشنطن وباريس والرياض والقاهرة وغيرها يدفعون باتجاه انضاج طبخة حكومية. تتولى تلك العواصم التحرك وممارسة الضغوط فيما طهران مستثناة من أمر هي صاحبة الأمر به دون منازع. فلماذا تتبرّع إيران برفع يدها مجانا في عزّ موسم المفاوضات والمواجهات التي وفقها يتحدد موقع إيران المقبل ومستقبلها.
تملك إيران أوراقها في "العواصم الأربع" ولن تسلّم تلك الأوراق إلا على طاولة التسويات الكبرى. فإذا ما كان لبنان ميداناً يهمّ العرب والعجم إلى درجات تتصاعد، فحريّ بالحليف في بعبدا أن يقفل أي مخارج لا يرضى الوليّ الفقيه بفتحها، وردّ الحريري وغيره عن حكم بيروت طالما أن قرارها في طهران.