في مقالنا الأخير قبل أسبوع حول "المتحور الداعشي"، انتهينا إلى أن داعش لم ينتهي كما تصور الكثيرون، وأن العودة الملحوظة لأنشطته الإرهابية تعني أن التنظيم لم يمت وأنه لم لا يزال قادرا على شن هجمات كبيرة، ليس فقط في نقاط انتشاره الجديدة، ولكن أيضا في معاقله التقليدية في سوريا والعراق التي تم إعلان هزيمته رسميا فيها.
فأن ما انتهى منه كان مجرد سلالة أعقبتها سلالات جديدة ظهرت تباعا في مناطق مختلفة، ويبدو أننا الآن أمام متحور جديد من هذا الوباء اللعين لا يقل خطورة عن متحوراته السابقة.
وهذا تقريبا ما انتهت إليه صحفية الغارديان البريطانية في تقرير موسع لها مؤخرا، حول إعادة تجميع داعش لصفوف مقاتليه في العراق، أشارت فيه إلى عملية تقوم بها القوات الخاصة العراقية عبر الريف، جنوبي مدينة كركوك، لاستهداف سلسلة من المخابئ التي يستخدمها مقاتلو التنظيم في تضاريس وعرة.
تقرير الصحيفة أشار إلى أنه وبعد أربع سنوات من هزيمتهم المذهلة في معركة الموصل، يعيد مقاتلو داعش تجميع صفوفهم ومهاجمة نقاط تفتيش عسكرية وأمنية واغتيال قادة محليين ومهاجمة شبكات لنقل الكهرباء ومنشآت نفطية وغيرها، و"بسبب حرمانهم من الدعم المحلي في المدن والبلدات بعد الدمار الذي ألحقوه بها ولأنهم غير قادرين على السيطرة على الأراضي في مواجهة القوات الحكومية الأكثر تفوقا، فقد لجأوا إلى نمط حياة يشبه الرحل، و ومع استنزاف مواردهم المالية بشدة، يبحثون عن مأوى في الجبال والوديان ويتحركون باستمرار حتى يتم حشد الموارد الكافية والرجال لتنظيم هجوم.
الملفت في تقرير الصحيفة البريطانية هو ما نقلته عن أحد زعماء القبائل العراقية الذين قاتل رجاله ضد تنظيم داعش، الذي أكد على أنه بالرغم من قلة أعداد المسلحين في الوقت الحالي، إلا أنهم "يعملون على إعادة تهيئة الظروف التي سمحت لهم بالسيطرة على المنطقة". مطلقا صرخة تحذير بأنه "إذا تم تركهم دون رادع، فسيتمكنون قريبا من التنظيم وإعادة التجمع، مشبها وضع داعش الآن بنفس وضع القاعدة بعد هزيمتها في عام 2009، فلم يستغرق الأمر منهم سوى أقل من ثلاث سنوات ليعودوا أقوى بعد أن ذهبوا تحت الأرض لإعادة تجميع صفوفهم وتنظيمها.
كل هذا يعني أن داعش ما زال يشكل تهديدا كبيرا وجديا على أمن العالم واستقراره، وخطره لا يزال حاضرا، وخطورته لا تزال قائمة، والتسليم بأن داعش انتهى، واتخاذ قرارات بناء على هذا الافتراض الخاطئ، هما أكبر هدية يمكن تقديمها لهذا التنظيم الإرهابي، فهذا منتهى مراده وأكثر ما يصبو إليه؛ تخفيفا لما عليه من ضغوط، وتحيُّناً لفرصة يلتقط فيها أنفاسه ويستوعب فيها خسائره ويعيد تنظيم صفوفه في مناطق وجوده التقليدية، ويرسخ فيها وجوده في بؤر انتشاره الجديدة.
لذا فإن هناك مسؤولية كبيرة لا تزال قائمة على التحالف الدولي لمحاربة داعش، واستمرار هذا التحالف لا يجب أن يكون أمرا محل نقاش، ومهمته لا يجب أن يطالها أي تغيير مع التغير الذي شهدته الإدارة الأمريكية مطلع هذا العام، فداعش لم ينته لذا لا يجب أن ينتهي التحالف الذي نشأ من أجل محاربته، كذلك تظل هناك الكثير من علامات الاستفهام المصحوبة بقلق العديد من الأطراف حول إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن بلاده ستباشر بإغلاق قواعدها في شمال مالي بدء من الأسابيع القليلة المقبلة وانتهاء بحلول مطلع العام 2022"، وإنهاء عملية برخان لمحاربة الإرهابيين في منطقة الساحل في إطار خفض عديد القوات الفرنسية التي تقاتل المتطرفين في هذه المنطقة، وكذلك إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن الخميس الماضي أن يوم 31 أغسطس المقبل سيكون تاريخ انتهاء انسحاب قوات بلاده من أفغانستان.
الغريب في كلمة بايدن ما ذكره عن أن واشنطن "حققت أهدافها في مكافحة التهديد الإرهابي ولم تذهب إلى أفغانستان لبناء أمة بل تلك مسؤولية الأفغان"، هذه الكلمة التي ألقاها في واشنطن قبل أيام أعتقد أنها ستكون محل استغراب كثير من الباحثين والمحللين لما اعتراها من تناقضات ومن هدم للمسلمات المتعارف عليها في العلوم الاجتماعية، إذ كيف يمكن أن تدعي أنك نجحت في مكافحة الإرهاب دون أن تبني أمة حاضنة للفكر المعتدل ولديها من أسباب العيش الكريم من يمنع شعبها من احتضان المتطرفين.
التناقض أيضا كان حاضرا في هذه الكلمة العجيبة، ففي الوقت الذي أعرب فيه عن "ثقته في قدرة" الجيش الأفغاني للتصدي لحركة الطالبان، إلا أنه أقر بأنها تحاول استغلال الانسحاب الأمريكي والتوسع عبر مجموعة من المناطق الأفغانية.
وعودة طالبان للسيطرة على الوضع في افغانستان يعني بطبيعة الحال عودة محتملة وغير محمودة للقاعدة وإرهابها وتهديداتها للعالم بأسره، فالظروف ستصبح مثالية لها لإعادة بناء شبكتها وتحالفاتها، فالصلة بين طالبان والقاعدة ليست بحاجة لإثبات مدى قوتها أو مدى أهميتها لكليهما، حتى وإن زعمت الحركة أو حاولت الإيحاء بأنها ليست بحاجة للتنظيم أو حاولت التبرؤ منه، خوفا من أن ينظر إليها على أنها منبوذة دوليا وهي شريك في السلطة محليا ومن أجل ضمان قبولهم على المستوى الدولي.
وبالتالي ليس مستبعدا أن أي حكومة مستقبلية في أفغانستان تشارك فيها طالبان يمكن أن تحتوي على عناصر من تنظيم القاعدة، وهو ما سيعطي دفعة معنوية هائلة لهذا التنظيم الإرهابي ستساعده على إعادة تجميع صفوفه مرة أخرى، فكل ما تحتاجه التنظيمات الإرهابية مثل القاعدة وداعش للازدهار، يتمثل في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، وكل الدلائل تشير إلى أن هذه الحالة على وشك أن تحدث في أفغانستان.