يتباهى إعلام النظام الإيراني وأتباعه في الشرق الأوسط بأن الولايات المتحدة لم تستطِع أن تهزم إيران، رغم محاولاتها الحثيثة بهذا الاتجاه منذ 42 عاما، وأن العكس قد حصل، إذ تمكنت إيران من الصمود بوجه الحملة الأميركية المعادية، بل تمكنت من أن تمضي في برامجها التوسعية والتسلحية رغم العقوبات الأميركية.
فهي مازالت تساند (حلفاءها) في الشرق الأوسط (الميليشيات) على الرغم من المعارضة الأميركية والدولية والإقليمية، بل وأنها تسيطر على أربع دول عربية، أو تتحكم بها.
لكن الحقيقة مختلفة كثيرا عن ادعاء النظام الإيراني الإيراني وأتباعه ومريديه.
فالولايات المتحدة لم تعتبر عداء إيران لها قضية مركزية بحيث أنها تفكر فيها جديا وتحاول أن تجد لها حلا عاجلا، فهي لا تتعدى كونها إحدى قضايا السياسة الخارجية الأميركية، وقد عالجتها الإدارات الأميركية المتعاقبة، الجمهورية منها والديمقراطية، بفرض عقوبات متصاعدة عليها بمرور الزمن، والتي أعاقت تقدم إيران وأضرت كثيرا باقتصادها وأفقرت شعبها، ما دفع كثيرين من الإيرانيين إلى الهجرة، أو سلوك طرق ملتوية لمواصلة نشاطاتهم الاقتصادية، كأن يسجلوا مشترياتهم بأسماء شركات أخرى، وضمن واردات دول أخرى (صديقة) أو متواطئة مع إيران، مقابل نسب معينة من الأرباح.
كما تحاول الحكومة الإيرانية جاهدة الاستفادة من الدول التي لديها فيها مليشيات، عبر تمرير صفقات سرية وبطرق غير قانونية وغير مشروعة، أحيانا عبر تقديم الرُشى للمسؤولين الفاسدين، وأخرى عبر الابتزاز والوسائل غير الأخلاقية، وأخيرا عبر سلاح المليشيات الموالية لها المعروفة بـ(الولائية). وحتى الصين، الحليفة الحالية لإيران، لم تستطِع أن تتعامل معها كدولة محترمة ذات سيادة، بل لجأت إلى طريقة المقايضة، التي كانت تستخدم في عهود مقابل اختراع العملات الحديثة، أي تتسلم نفطا من إيران وتسلمها بضائع محلها.
أما التقييم فيجري حسب عملة (الشيطان الأكبر)، العدو الذي يجاهد نظام الولي الفقيه، (محاولات دونكيخوتية) من أجل إلحاق الهزيمة به، ولكن دون جدوى، فدونكيخوت (أو دونكيشوت كما يحلو للبعض أن يسميه) كان شخصا وهميا، ورد في رواية للكاتب الأسباني المبدع ميغيل ثرافانتيس.
أما العراق الذي تجول فيه المليشيات الإيرانية وتصول، وتسرق وتخطف وتقتل وتجري استعراضات عسكرية في بغداد، وتقيم قواعد عسكرية أين ما يحلو لها، وتطلق طائرات مسيرة في أجوائه وتهاجم مطاراته ومعسكراته ومؤسساته والسفارات الأجنبية فيه، دون أن تجرؤ الحكومات العراقية المتعاقبة على ردعها، فإنه لن يتمكن رسميا من أن يدفع مستحقات الصادرات الإيرانية، وفي مقدمتها الكهرباء، بسبب العقوبات التي تمنع التعامل مع إيران.
وقد قال وزير المالية العراقي، علي علاوي، في مقابلة صحفية إن العراق عرض على الإيرانيين منتجات عراقية مقابل الكهرباء، لكن الإيرانيين يقولون لا نريد منجاتكم بل نريد أموالا بالدولار، الأمر الذي لا يستطيع العراق فعله بسبب العقوبات المفروضة على إيران. وقد اقترح علاوي على الإيرانيين أن يأخذوا الشعير مقابل الكهرباء، لأنهم قد يحتاجون إلى الشعير حسب قوله.
نعم، الشعير بديلا عن الدولار!
التفكير الأميركي حول إيران تحكمه عوامل عدة، منها أن إيران دولة من دول العالم الثالث وأن النظام الإيراني وإن ادعى الانتصار فإنه في الحقيقة يعاني وطأة العقوبات، ويحاول إقناع شعبه بأنه منتصر على (قوى الاستكبار)! وهي تعرف أيضا طبيعة الشعب الإيراني، وكيف أنه يتمتع بوطنية عالية، وقد اتضح هذا الأمر جيدا في حرب الثماني سنوات مع العراق، فعلى الرغم من وجود غالبية تناهض النظام الحاكم، إلا أن معظم النشاطات المعارضة للنظام توقف، بل اقتصر على الانتقادات الكلامية، وذلك بسبب وجود تهديد خارجي، خصوصا وأن نظام صدام حسين، أعطى النظام الإيراني حجة بالاستمرار في الحرب، وهي أنه أول من أعلن الحرب العسكرية رسميا على إيران، على الرغم من أن الحرب الإيرانية على العراق، عسكرية ودعائية وطائفية تحريضية، قد بدأت منذ اليوم الأول لانتصار ثورة الخميني.
فعندما أرسل الرئيس العراقي الراحل أحمد حسن البكر تهنئة إلى الخميني بانتصار الثورة، واستعداد العراق لفتح صفحة جديدة مع النظام الجديد، خصوصا وأن العلاقة مع نظام الشاه لم تكن على ما يرام، رغم توقيع البلدين اتفاقية الجزائر عام 1975، أجابه الخميني برسالة جوابية استعلائية ومسيئة، خصوصا عندما وقعها بعبارة (والسلام على من اتبع الهدى) التي تجرد المرسل إليه من انتمائه إلى الإسلام.
ومع ذلك، فقد ابتلع النظام العراقي آنذاك تلك الإهانة المقصودة وتناساها آملا بتحسن العلاقات، لكن الدعاية الإيرانية التحريضية المعادية للعراق، والمناوشات العسكرية الحدودية، والإعلان الرسمي بتصدير الثورة، استمرت حتى أعلن صدام حسين إلغاء اتفاقية الجزائر باعتبار أن إبران أخلت بها، وشن الحرب على إيران ردا على اعتداءاتها المتكررة على الحدود.
الإيرانيون بشكل عام يحبذون علاقات طيبة ومتميزة مع الدول الغربية عموما، وأميركا على وجه الخصوص، بل يعتبرون أنفسهم شعبا يمت بصلة القرابة إلى الشعوب الغربية باعتبار أن اللغة الفارسية تنتمي إلى (اللغات الهندو أوروبية)، وليست إلى اللغات الشرقية أو السامية كما هي حال العربية والعبرية.
وبالإضافة إلى المشترك اللغوي، فإن هناك مشتركات ثقافية تجمع الشعوب الإيرانية، خصوصا المتحدثة بالفارسية، مع الشعوب الأوروبية، لذلك تتحاشى الإدارات أن تخسر التعاطف الشعبي الإيراني مع الثقافة الغربية، عبر شن حرب عسكرية ضد إيران، قد تجبر الإيرانيين على الانخراط في حرب ضدها.
ومن أهم المشتركات السياسية الحالية بين الغرب والشعوب الإيرانية هو الرغبة في التحرر من نظام الولي الفقيه، الذي يجثم على صدر إيران منذ 42 عاما، عبر السلاح والإرهاب والفتاوى وتجنيد البسطاء وتلقينهم الخرافات بأن الجنة تنتظرهم إن هم ساندوا (دولة العدل الإلهي) و(بيضة الإسلام).
ولا ننسى أيضا أن الحروب لم تحقق أهدافها لا في العراق ولا في فيتنام ولا الصومال قبلها، وأن الوسيلة الأنجع لإسقاط النظام الإيراني هي كسب الشعوب الإيرانية التي تريد حياة تزخر بالحرية والرخاء والسلام، الذي افتقدته منذ مجيء نظام الولي الفقيه حتى اليوم.
الشعوب الإيرانية شعوب تمتلئ بالفخر بالثقافة والحضارة الإيرانية القديمة، وتطمح أن ترتقي إلى مصاف الشعوب الغربية المتحضرة، لكنها ابتلت بنظام متخلف ينتمي إلى عصور خلت، لم يقُدها إلا إلى التدهور والتناحر والحروب والفقر والعقوبات الدولية وعداء المجتمع الدولي والدول الإسلامية.
إسقاط النظام الإيراني عبر الحرب سيكون مكلفا لإيران والولايات المتحدة على حد سواء، إضافة إلى أنه لن يحظى بدعم أممي، على الأمد المنظور على الأقل، والأفضل، حسب التوجهات الأميركية، هو تضييق الخناق على النظام الإيراني ودفع المعارضين له في الداخل وهم كثر، حتى بين أتباعه السابقين، كي يسقطوه. نعم ستقع خسائر بشرية، ربما كثيرة، فالحرس الثوري، المصنف أمريكيا منظمة إرهابية، سوف يمارس القتل كما مارسه في المرات السابقة، خصوصا في عام 2009، فيما سمي حينها بالثورة الخضراء، التي سقط فيها أكثر من 70 قتيلا حسب مصادر قادة الحركة الخضراء.
الوطنيون بين الجيش والحرس الثوري الإيرانيين ليسوا قليلين، وليس من الصحيح أن نتصور أن كل منتسبي الحرس الثوري موالون للولي الفقيه خامنئي أو لخليفته رئيسي. وكما رأينا إبان الثورة الإيرانية عامي 1978 و1979، فإن الجيش رفض الامتثال لأوامر الشاه بضرب المتظاهرين المدنيين، ما سهل على أنصار الخميني وحزب تودة ومنظمة مجاهدي خلق، وهي القوى الثلاث الرئيسية المعارضة للشاه، أن يسقطوا النظام، الذي انهار فور مغادرة الشاه طهران إلى الخارج.
وعلى الرغم من أن هذه القوى الثلاث الرئيسية التي ساهمت مساهمة فعالة في إنجاح الثورة على الشاه، إلا أن الملالي انقضّوا على حلفاء الأمس وأبعدوا الرئيس المنتخب، أبو الحسن بني صدر، وتفردوا بالسلطة عبر القتل والقمع والفتاوى التي تكفر الخصوم، إذ أصبح كل مخالف لنظام ولاية الفقيه (مفسدا في الأرض) جزاؤه القتل، وإن اتضح لاحقا بأنه بريء، فإنه "سيدخل الجنة" حسب رأي قاضي الثورة سيء الصيت (صادق خلخالي) الذي ارتكب مجازر بحق المخالفين والمسؤولين في زمن النظام الشاهنشاهي.
هناك مثل إنجليزي أدرجه المؤرخ الإنجليزي توماس فولار في كتابه عن الأمثال الإنجليزية الصادر قبل 500 عام يقول "لن تضطر لأن تقتل الأحمق، بل أطل له الحبل وسوف يشنق نفسه". النظام الإيراني يدخل ضمن قائمة الحمقى، وإلا كان يمكنه أن يجعل من إيران دولة متطورة وقوية ومنتجة ومساهمة في التقدم والاستقرار الإقليمي والسلم العالمي. ومن هنا، فإن الأوربيين والأمريكيين وباقي دول العالم يتعاملون مع النظام من هذه الزاوية، آملين في أن يصلح نفسه، ويتمكن من أن يرى الأضرار التي تلحقها حماقاته بإيران وبلدان المنطقة، التي أصبحت تخشى أن يتفشى هذا الوباء إلى بلدان أخرى، ويحولها إلى خرائب، كما حصل في اليمن وسوريا والعراق ولبنان. الأوروبيون يأملون أن الانفتاح على إيران سوف يرجح كفة الإصلاحيين والمناهضين لنظام الولي الفقيه، وبالطبع فإنهم يريدون أن يستفيدوا ماديا من هذا الانفتاح عبر تصدير المعدات والمنتجات التي تحتاجها إيران، والمساهمة في إصلاح ما خربه النظام الإيراني نفسه عبر سياساته العشوائية اللامسؤولة.
لكن الأميركيين، الذين يعلمون أنهم لن يستفيدوا من أي انفتاح على إيران، لهم وجهة نظر أخرى، وهي أن النظام سيزداد ضعفا بمرور الزمن عبر العقوبات وحرمانه من التقنيات الحديثة والتجارة الحرة مع دول العالم.
وهذا المنحى الأميركي سوف يستمر فالولايات المتحدة لن تتعامل مع النظام الإيراني الذي أوغل في تأجيج الحروب والإرهاب في الشرق والأوسط وتأليب البسطاء في إيران والبلدان الاخرى ضدها عبر ترويج الأكاذيب عنها وادعاء البطولات له.
الولايات المتحدة تسيطر على النظام المالي العالمي، وتهيمن على المؤسسات المالية العالمية، وإن هي فرضت عقوبات على أي بلد فإن تلك العقوبات سوف تعيده عشرات السنين إلى الوراء، وهذه حقيقة يعرفها الاقتصاديون والمسؤولون في دول العالم أجمع، لكنها غائبة، على ما يبدو، عن الملالي في إيران، الذين ربما يتوهمون بأنهم قادرون على إلحاق الهزيمة بدولة عظمى كالولايات المتحدة.
والغريب أن قادة إيران لم يردوا على الهجمات والاغتيالات التي تعرض لها البرنامج النووي الإيراني ومديروه، والتي يتهمون إسرائيل بتدبيرها! فإن كانوا غير قادرين على الرد على دولة صغيرة كإسرئيل، التي تعاونوا معها ضد العراق في حرب السنوات الثماني، فكيف يتمكنون من الرد على دولة عظمى كالولايات المتحدة؟
المجيء بإبراهيم رئيسي لرئاسة إيران سوف يفاقم الوضع، فالرجل مُدرج ضمن قائمة المشمولين بالعقوبات لدوره في إعدام خمسة آلاف سجين سياسي عام 1988، وهو لا يستطيع أن يسافر إلى دول العالم دون مخاطرة باعتقاله، وبالتأكيد لن يستطيع أن يحضر اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل.
كما أن المعارضة في إيران لرئيسي واسعة، تبدأ بالرئيس الأسبق أحمدي نجاد، ولا تنتهي بإسحاق جهانغيري وعلي لاريجاني وجواد ظريف وسعيد محمد ومحسن رضائي، وكلهم، باستثناء جهانغيري، من المحسوبين على التيار المحافظ الذي يفترض أن رئيس ينتمي إليه، وكذلك خامنئي. مثالب النظام الإيراني كثيرة، والعالم يعلم بها، وسيأتي اليوم الذي تنقلب فيه الموازين، وتقف حتى روسيا والصين ضده، فكلا البلدين لديهما جماعات إسلامية متطرفة، ولابد أنهما يخشيان من أن النظام الإيراني قد لا يتردد في إيواء ودعم أعضاء هذه الجماعات، كما يفعل حاليا مع قادة القاعدة وداعش.
لقد أثار النظام الإيراني فتنة في بريطانيا مثلا، في أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات عندما أصدر الخميني فتوى بقتل الكاتب البريطاني سلمان رشدي. وأثار فتنة أخرى في فرنسا عندما أرسل قتلة لاغتيال رئيس الوزراء الإيراني الأسبق شاهبور بختيار الذي كان لاجئا في فرنسا.
وأثار فتنة في ألمانيا عندما اغتال ثلاثة قادة أكراد إيرانيين، هم صادق شرفقندي وفتاح عبداللي وهمايون أردلان، مع مترجمهم، نوري دهكوردي، في مطعم ميكونوس الإيراني في برلين عام 1992. هل ستصمت روسيا إن قرر النظام الإيراني أن يدعم متمردي الشيشيان؟ وهل ستصمت الصين إن قرر النظام الإيراني أن يتدخل في إقليم شينجان لصالح الحركات الأصولية المتطرفة هناك؟
مناهضة الدول العظمى وحدها لن تخلق دولة غير قادرة على توفير ضروريات الحياة العصرية لسكانها دولة عظمى. لابد من التذكير هنا بأن جمهورية فنزويلا البوليفارية وجمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية هما الأخريان يناهضان الولايات المتحدة لكنهما، كما هي حال إيران، تعانيان من الجوع والفقر والضعف التدهور الاقتصادي، ولم ينفعهما التسلح أو خطابهما العدائي لأميركا، ولا السلاح النووي في حالة كوريا الشمالية.
النظام الإيراني يسير نحو حتفه بأرجل قادته وسياساتهم وتصرفاتهم وعدم اكتراثهم لحقوق الإنسان والقانون الدولي وسيادة الدول الأخرى على أراضيها، ومصالحها المشروعة، ومن يسقطه هو الشعوب الإيرانية التي لا تؤيد هذه السياسات الطائشة التي تسببت في إفقار إيران وتأخرها ومعاناة سكانها، بالإضافة إلى أنها تتعارض مع القانون الدولي وسيادة الدول المستقلة الأعضاء في الأمم المتحدة، التي لن يسمح المجتمع الدولي بأن تكون تابعة لنظام قروسطي يعادي العالم.
عندما يثور الإيرانيون ضد نظامهم فسوف يجدون العالم أجمع يقف إلى جانبهم، وهذا اليوم ليس بعيدا.