من جديد عادت أخبار تنظيم داعش لتتصدر طثيرا من نشرات الأخبار وعناوين الصحف، فخلال الأسبوع الماضي فقط تكرر اسم التنظيم الإرهابي أكثر من مرة مقرونا بجهود أفشلت مساعيه التخريبية في بقع جغرافية متباينة ومتباعدة.
فأمس فقط قالت الشرطة الإيطالية إنها ألقت القبض على 4 رجال بتهم تمويل تنظيم داعش الإرهابي في أوروبا والشرق الأوسط بعد تحقيق قاد للكشف عن شبكة أكبر يشتبه أنها تمول الإرهاب، وأمس أيضا أعلنت السلطات الحكومة في إقليم كردستان العراق إحباط هجوم إرهابي كبير من التنظيم لتهريب عناصر تابعين له معتقلين في أربيل عاصمة الإقليم.
وأول أمس أعلن جهاز الأمن الفيدرالي الروسي عن إحباط سلسلة من الهجمات الإرهابية، في مدينتي موسكو وأستراخان وجمهورية قباردينو بلقاريا، أعدها عناصر من تنظيم داعش.
وفي نفس اليوم ذكرت وسائل إعلام دولية أن بأن تنظيم "داعش" شن هجوما على الجيش العراقي في محافظة الأنبار غربي البلاد أسفر عن مصابين، والجمعة الماضي أعلنت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورنس بارلي، أن عددا من قادة التنظيم في الصحراء الكبرى الإفريقية قتلوا أو اعتقلوا في الأسابيع الأخيرة بأيدي قوة "برخان" الفرنسية وشركائها في الأجزاء النيجرية والمالية من منطقة "ليبتاكو" الشاسعة.
إذن من إيطاليا إلى روسيا إلى مالي والنيجر مرورا بسوريا والعراق.. شهدت قارات العالم الأكبر آسيا وافريقيا وأوروبا عودة ملحوظة لأنشطة داعش الإرهابية في إشارة واضحة على أن التنظيم لم يمت وأنه لم لا يزال قادرا على شن هجمات كبيرة، ليس فقط في نقاط انتشاره الجديدة، ولكن أيضا في معاقله التقليدية في سوريا والعراق التي تم إعلان هزيمته رسميا فيها، بالإضافة إلى توسعه ودعم تواجده في معاقله الجديدة ومنها الساحة الروسية التي يبدوا أن التنظيم وجد فيها ملاذاً وبيئة مناسبة لنشاطاته الإرهابية في ظل وجود عدد كبير من العناصر الداعشية العائدين من سوريا والعراق يحملون الجنسية الروسية وينحدرون من روسيا والجمهوريات الإسلامية التابعة لها في آسيا الوسطى والقوقاز والتي تكثر فيها الحواضن الشعبية للفكر الداعشي وبيئة خصبة لنمو الخلايا الإرهابية، والذين حاولوا مرارا وتكرارا إلى تأسيس فرع للتنظيم داخل روسيا، وهناك الكثير من التقديرات التي تشير إلى أن المقاتلين كانوا الروس يحتلون صدارة المقاتلين الأجانب في صفوف التنظيم.
إذن بات واضحا الآن أن التنظيم أصبح يشكل تهديدا متزايدا لمناطق خارج الشرق الأوسط، وأصبح بكتسب بشكل متسارع نفوذا في مناطق أخرى، بما في ذلك روسيا ومناطق في غرب أفريقيا، وكذلك أفغانستان التي يتنامى فيها نفوذ التنظيم بشكل سريع ومخيف.
ففي مايو الماضي أعلن الموفد الأميركي إلى كابل روس ويلسون أن التنظيم المتطرف يمثل قوة كبيرة في أفغانستان، بعد اتهام التنظيم بالوقوف وراء تفجيرات 8 مايو أمام مدرسة للبنات في كابل أودت بحياة أكثر من 50 شخصا، وتفجير مسجد بعدها في ضواحي العاصمة أدى إلى مقتل 12 مصليا، وهنا يبدو القلق الروسي مفهوما إلى حد بعيد من أن انسحابا أميركا من أفغانسان سيؤدي بالتأكيد إلى تعاظم قوة "داعش"، خاصة في المناطق الأفغانية الشمالية عند الحدود مع حلفاء روسيا تركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان.
وهو القلق الذي عبر عنه صراحة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بإعلانه يوم الجمعة الماضي أن تنظيم "داعش" الإرهابي يعمل على حشد قواته في أفغانستان مستغلا عملية التحضير لمفاوضات السلام، التي طال أمدها وفي ظل ظروف الانسحاب المتسرع لقوات "الناتو"، القلق من تداعيات الانسحاب الأمريكي من أفغانستان لم يكن قاصرا على روسيا وحدها، لكنه انتقل أيضا إلى حلفاء واشنطن أنفسهم، وهو ما انعكس على سبيل المثال في تصريحات مدير جهاز الاستخبارات البريطاني السابق أليكس يونجر لصحيفة "التايمز" البريطانية قبل أيام، والتي حذر فيها من أن المملكة المتحدة ستواجه تهديدا أكبر من الجماعات الإرهابية إذا "أهمل الحلفاء أفغانستان بعد انسحاب القوات الأجنبية"، محذرا من أن الجماعات الإرهابية لديها القدرة على التجدد وإعادة حشد قواتها. مضيفا أنه إنه سيكون من "الخطأ الفادح" أن يدير الحلفاء ظهورهم لأفغانستان لأن نمو الجماعات الإرهابية في المنطقة سيؤدي إلى "تهديد أكبر" في بريطانيا.
عودة داعش في هذه البقع الجغرافية المستجدة تعني صدق التقارير الدولية الكثيرة التي حذرت من فترة طويلة من أن خسارة التنظيم لمعاقل نفوذه التقليدية لا تعني نهايته ولا تعني انتهاء جهوده في استقطاب عناصر جديدة تمكّنه من الحفاظ على فكره ونشاطه، وإنما قد تكون تلك الخسارة مجرد إيذانا ببدء مرحلة جديدة يعيشها داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية، ويسعى فيها لإعادة تموضعه جغرافيا بحثا عن ملاذات آمنة جديدة ومناطق انتشار مغايرة تمكنه من البقاء، مثل مناطق عدة في أفريقيا وجنوب شرق آسيا.
ومن أبرز هذه التقارير الدولية التي تعني برصد أبرز الاتجاهات العالمية والإقليمية للتهديدات الإرهابية وتطوراتها وتجلياتها كان تقرير "مؤشر الإرهاب العالمي" الذي يصدر عن "معهد الاقتصاد والسلام" الأميركي ويرصد وبحلل آثار وتداعيات الإرهاب في 163 دولة تغطي نحو 99 بالمئة من سكان العالم، هذا المؤشر انتهى في نسخة عام 2018 إلى أن هناك توجها عاما طغى على التنظيمات الإرهابية خلال السنوات الأخيرة بضرورة التحرك بعيدا عن مناطق الصراعات التقليدية، مثل منطقة الشرق الأوسط، وضرورة إعادة الانتشار جغرافيّا، والتموضع في مناطق جديدة بعيدة عن دائرة الضوء بما يمنح تلك التنظيمات حرية أكبر في الحركة، وهامشا أوسع للمناورة.
وهنا أشار التقرير إلى ثلاثة مناطق رئيسية باتت تحظى باهتمام التنظيمات الإرهابية لاسيما داعش، اثنتان منهما في أفريقيا والثالثة في آسيا، وهذه المناطق هي: منطقة الساحل الأفريقي التي أصبحت تشهد تنافسا على النفوذ بين تنظيمي "القاعدة" و"داعش"، منطقة الحزام الأوسط في نيجيريا التي تشهد صراعا على الموارد والمراعي بين المجموعات الموجودة في المنطقة، منطقة جنوب شرق آسيا التي تشهد موجة جديدة من الإرهاب تتزعمه المجموعات التابعة لتنظيم "داعش" والحركات الانفصالية في دول تلك المنطقة. وقد أثبتت أحداث العامين السابقين مدى مصداقية ما انتهى إليه هذا التقرير بعد أن تبنى داعش مسؤولية الكثير من الأعمال الإرهابية الدامية التي جرت في دول مثل سيرلانكا والفلبين ونيجيريا، كذلك أحداث الأسبوع المنصرم الذي تردد فيه أسم داعش في ثلاث عواصم كبرى في أوروبا وأفريقيا وآسيا
وهنا يبدوا أن داعش لم ينتهي كم تصور الكثيرون، لكن ما انتهى منه كان مجرد سلاسة أعقبتها سلالات جديدة ظهرت تباعا في مناطق مختلفة، ويبدو أننا الآن أمام متحور جديد من هذا الوباء اللعين لا يقل خطورة عن متحوراته السابقة.