أصبح الهلع من عودة طالبان إلى الحكم في أفغانستان مهيمنا على تفكير الكثيرين منذ أن أعلنت الولايات المتحدة وقوات حلف الناتو أنها ستسحب قواتها العسكرية من أفغانستان بحلول 11 سبتمبر/أيلول، وتترك البلد لأهله كي يديروه ويحفظوا أمنه ويرسّخوا استقراره.

ولكن هل يبرر الإعلان الأمريكي كل هذا الهلع من عودة طالبان إلى الحكم في أفغانستان؟ وهل يمكن أن تعود حركة أصولية إرهابية إلى الحكم بعد عشرين عاما من تكبدها هزيمة منكرة على أيدي قوات تحالف الشمال الأفغانية المدعومة من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة؟

وهل سيستسلم الشعب الأفغاني الذي اكتوى بنار طالبان لبضع سنوات أثناء سيطرتها على البلد بهذه السهولة؟ وهل سيقبل بها المجتمع الدولي الذي اتهمها بإيواء أكبر منظمة إرهابية في العصر الحديث، ألا وهي القاعدة، المسؤولة عن مهاجمة مركز التجارة الدولي في نيويورك ومبنى وزارة الدفاع الامريكية (البنتاغون) في واشنطن، باستخدام طائرات مدنية مخطوفة؟

ولو أن طالبان قد عادت فعلا إلى الحكم في أفغانستان، وفرض المحال ليس محالا، فما هو برنامجها؟ هل لديها برامج اقتصادية أو اجتماعية أو تربوية أو تعليمية أو صحية أو زراعية أو صناعية؟ هل تعتزم أن تحول أفغانستان إلى دولة مستقرة وقوية، بحيث تقيم علاقات طبيعية مع دول العالم الأخرى؟ وهل ستحترم خيارات الشعب الأفغاني، المتنوع عرقيا ودينيا وثقافيا، وحرياته وحقوقه المشروعة؟ أم أنها ستعود لممارسة الأفعال التي مارستها سابقا وهي ملاحقة المخالفين لها في الرأي وقمع النساء وتطبيق (الشريعة) حسب رؤاها المتشددة ونظرتها الضيقة للدين؟

ومع تمكّن كثيرين من الإجابة على هذه الأسئلة، هناك سؤال أهم منها جميعا، ولم يتضح جوابه بعد، وهو كيف تمكنت هذه الحركة، المنبوذة دوليا وإقليميا وأفغانيا، من أن تبقى وتواصل نشاطاتها العسكرية وتتمكن من السيطرة على عدد من المقاطعات الأفغانية كما أفادت الاخبار؟ التفسير المنطقي هو أنها حتما حصلت على دعم مالي وعسكري من جهات دولية كي تتمكن من البقاء وشراء السلاح والحصول على التدريب المطلوب. الأفغان المناهضون لها يتهمون باكستان بدعمها وإيواء عناصرها وتسهيل نشاطاتها.

بقيت القوات الامريكية وقوات حلف الناتو عشرين عاما في أفغانستان، وقامت بتدريب وتأهيل الجيش والشرطة وبناء قواعد عسكرية ومؤسسات أمنية ومدنية متطورة، كي يتمكن البلد من الوقوف على قدميه والتعامل مع مشاكله بنفسه. لا شك أن عشرين عاما كافية لتأسيس جيش نظامي قادر على الدفاع عن البلد، وأجهزةٍ أمنية قادرة على حفظ الأمن، ومؤسسات مدنية وسياسية واقتصادية قادرة على إدارة البلد.

 لا يمكن المجتمع الدولي أن يبقى في أفغانستان إلى ما لانهاية كي يحرسها من حركة محلية تمكنت من البقاء نشيطة طيلة هذه السنين رغم كل العقبات التي واجهتها. وهذه رسالة أخرى لكل الدول التي تتوقع من المجتمع الدولي أن يتدخل في كل صغيرة وكبيرة لأنها عاجزة عن حل مشاكلها بأنفسها.

كانت حركة طالبان (التي يفترض أن أعضاءها طلاب ولابد أنهم قد أنهوا دراستهم بعد كل هذه المدة الطويلة وتولوا وظائف نافعة لهم وللمجتمع) قد اختفت كليا تقريبا عن المشهد بعد أن هرب أفرادها تحت ضربات التحالف الدولي وقوات تحالف الشمال الأفغانية، ليتمكن الشعب الأفغاني من تنفس الصعداء وبناء مؤسساته بمساعدة المجتمع الدولي، وإجراء عدة انتخابات رئاسية وبرلمانية. الرئيس الأفغاني المنتخب الثاني، البروفيسور أشرف غني، الذي يخدم حاليا لفترة رئاسية ثانية، هو خبير سابق في البنك الدولي وأستاذ في الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) في جامعة جونز هوبكينز الأمريكية المرموقة، وقد احتل المرتبة الخمسين بين أهم مئة مفكر في العالم وفق استطلاع أجرته مجلة فورين بوليسي عام 2013.

لكن طالبان عادت فجأة وبقوة إلى النشاط العسكري عام 2014 وأخذت تهاجم الشرطة والجيش وتدمر المؤسسات المدنية وتقتل المدنيين. لا يمكن أن يتوقع المرء أن حركة سياسية وطنية تبتغي مصلحة بلدها يمكن أن تدمر البنى الأساسية للبلد الذي تعتزم أن تحكمه، فالأعمال التخريبية هي من أفعال الجماعات الإرهابية التي تبتغي الإضرار بالخصم فحسب، ولا تأمل أن تصل يوما إلى السلطة، لأن الذي يأمل في الوصول إلى السلطة يحتاج إلى البنى الأساسية وإلى المؤسسات والكفاءات الوطنية، وإلى العلاقات الدولية كي يطور بلده ويخدم شعبه.

أدرك الامريكيون أن حركة طالبان لا يمكن أن تختفي من الحياة الأفغانية بالقوة العسكرية وحدها، ولابد من سلوك طريق آخر علَّه يكون مجديا ويقود إلى حل نهائي للمشكلة الأفغانية، لذلك قرروا عام 2020، بالاتفاق مع الحكومة الأفغانية، إجراء مفاوضات معها حول (إعادة الأمن والسلام إلى أفغانستان)، وقد وقّع الأطراف الثلاثة معاهدة بهذا الخصوص.

لكن الحركة على ما يبدو تحاول أن تستغل مغادرة القوات الدولية كي تستعيد هيمنتها على بعض المناطق أو تفرض وجودها بالقوة، لكنها ربما تسيء قراءة الموقف الدولي مرة أخرى، وهذا متوقع، فطالبان كما يشير أسمها، مجموعة من (الطلاب) الذين يفتقرون إلى الحنكة السياسية والخبرة في إدارة الدولة الحديثة، والمعرفة بتعقيدات العلاقات الدولية، وقد برهنوا أثناء فترة حكمهم الأولى في تسعينيات القرن الماضي أنهم غير قادرين على إقامة علاقات طبيعية مع دول العالم الاخرى.

الناطق باسم طالبان، ذبيح الله مجاهد، رحب بانسحاب القوات الدولية "لأنه سوف يمهد الطريق للأفغان أن يقرروا مستقبلهم بأنفسهم". لكنه على الاكثر يقصد أن (الأفغان) هم طالبان وأنه لا يحق لأحد غيرهم أن يكون له رأي في إدارة البلد. وهذه هي عقيدة حركة طالبان: إلغاء الآخر وإخضاعه بالقوة كي يمتثل لأوامرها ويغيِّر نفسه وفق رؤاها وأهواء قادتها، وكل ذلك يجري باسم الله. لقد فشلت طالبان في الحكم سابقا وسوف تفشل مستقبلا إن لم تتغير جذريا. وإن تغيرت فإنها لن تكون طالبان التي نعرفها.

هناك معوقات بنيوية كثيرة لعودة طالبان إلى الحكم، تبدأ بعدم لياقتها للحكم وعدم قدرتها على تقبل الآخر، ولجوئها إلى العنف لحل المشاكل التي تواجهها، وإيمانها بأنها الوحيدة التي تمتلك الحقيقة والتي يحق لها وحدها الحكم والتحكم بالآخرين، باعتبارها مفوضة من قبل الله وتحكم باسمه. كما أنها متشددة داخليا وخارجيا، وقادتها لا يفهمون في السياسة الدولية، ويعتقدون بأن خروج القوات الأجنبية يعني انتصارهم على خصومهم وأن العالم قد انهزم أمامهم وتخلى عن أفغانستان كليا، وأن الطريق أصبح ممهدا لهم للعودة إلى الحكم.

 لا شك أن هذا الاعتقاد لا يعدو عن كونه قراءة خاطئة للموقف الدولي والوطني. فالولايات المتحدة ستبقي بين 650 إلى ألف جندي منتشرين في القواعد العسكرية والمطارات لتقديم المساعدة والاستشارات والمعلومات والتدريب للقوات الأفغانية، وكذلك لحماية السفارة الأمريكية، ولو كانت تشعر بأن حركة طالبان قادرة على السيطرة على البلاد لما عرّضت جنودها للخطر.

كما سيبقي حلف الناتو عددا كبيرا من الجنود، معظمهم من القوات التركية، لدرء أي خطر تشكله طالبان على النظام السياسي، ولإسناد القوات الأفغانية عند الحاجة. إضافة إلى ذلك، فإن العلاقات الامريكية الأفغانية متطورة جدا وهناك قنوات كثيرة للتعاون الاقتصادي والأمني والسياسي والاستراتيجي بين البلدين، ولا يمكن أن تتخلى الولايات المتحدة عن أفغانستان بهذه السهولة بعد أن تكبدت، هي وحلفاؤها، خسائر بشرية تجاوزت الـ 7 آلاف قتيل، وخسائر مادية بلغت تريليونين ومئتين وستين مليار دولار.

لقد شكلت أفغانستان مشكلة معقدة للمجتمع الدولي منذ خمسين عاما، وقد وقعت ضحية لاحتلالين، الأول سوفيتي في أواخر السبعينيات والثاني أمريكي في مطلع الالفية الثالثة. وخلال العقود الخمسة المنصرمة، لجأ ملايين الأفغان إلى أوروبا وأمريكا وباكستان بسبب الحروب والاحتلال والإرهاب، التي راح ضحيتها ما لا يقل عن 120 ألف أفغاني حتى الآن.

هناك مصلحة أمريكية ودولية كبيرة في إبقاء البلد بعيدا عن سيطرة الجماعات الإرهابية، التي اتخذت منه في السابق ملاذا وقاعدة لشن هجمات على مناطق العالم المختلفة، فلم تخلُ بقعة من بقاع الأرض من إرهاب القاعدة وداعش، وكلا التنظيمين استخدما أفغانستان للتدريب والانطلاق إلى مناطق أخرى. بل حتى الجماعات المتشددة الاخرى مرتبطة بطريقة أو بأخرى بهذين التنظيمين وبأفغانستان للتدريب والتجمع والاختباء بسبب وجود مناطق وعرة لا يمكن الوصول إليها بسهولة.

وهناك أيضا مصلحة دولية في أن تتمكن أفغانستان من الوقوف على قدميها وتحقق أمنها واستقرارها بنفسها، فلا يمكن جيوش العالم أن تبقى على أرضها إلى ما لا نهاية، كي تحميها من أهلها. تبقى طالبان حركة أفغانية لها مؤيدون كثر، وإن كانت قد مارست الإرهاب والتعسف في السابق، بل ومازالت تمارسه، لكنها وقّعت في فبراير/شباط من عام 2020 على معاهدة مع الحكومة الأفغانية والولايات المتحدة لتحقيق السلام في أفغانستان. فإن التزمت بشروط المعاهدة وجنحت للسلم فيمكن الحوار معها وربما إشراكها في الحكم، شريطة ألا تلجأ إلى العنف لحل الخلافات مع خصومها وأن تحترم القوانين والأعراف الدولية.

الجماعات الإرهابية عموما لا تمتلك مشاريع للحكم والتطور، فمشاريعها كلها ماضوية تدميرية تقودها الأوهام وتقوم على العنف، وهذا المنحى غير مقبول محليا ودوليا، وغير قابل للاستمرار، فلا يمكن أي جماعة مهما أوتيت من قوة أن تهزم المجتمع الدولي المستعد لإلحاق الهزيمة بها مهما كان الثمن.

انسحاب القوات الدولية لا يعني بأي حال من الأحوال السماح لقوى إرهابية معادية للمجتمع الدولي بحكم أفغانستان. إنه إجراء يمكِّن الأفغان من إدارة شؤونهم بأنفسهم في وقت يقدم لهم المجتمع الدولي ما يحتاجونه من مساعدة للتعامل مع الأخطار والتحديات التي تواجههم.