كنا في ليلة من تلك الليالي التي نسأل الله ألا يعيدها علينا. جلسنا أنا واثنان من الأصدقاء نناقش أمرا لم نألفه وموقفا لم نتخيل في يوم من الأيام أننا سنكون شهودا عليه.

كانت أواخر عام 2011 ومصر الساعية نحو مستقبل لم تتضح ملامحه بعد تعيش أياما صعبة كشف خلالها من يتصورون أنهم "الفرقة الناجية" عن رغبتهم الدفينة في السيطرة على كل شيء، من بطاقات الاقتراع إلى بطاقات التموين، ومن مقاعد البرلمان حتى مقاعد المقاهي، لم يكن أحدهم يفكر في شيء إلا كيفية إجبار المجتمع على السير في الطريق الذي يراه صحيحا.

وكيف لا وهو من يمتلك "الحقيقة المطلقة" ومن سواه هو وجماعته ففي الضلال يعيشون، وفي خدمة الطواغيت يعملون.

المهم كان الموقف أن أحدهم قرر أن سكان الحي من المسيحيين لا يجوز لهم الحصول على احتياجاتهم من السلع الضرورية - كان رغيف العيش في هذه الواقعة -  إلا بعد أن يحصل المسلمون أولا على ما يحتاجون ولأنه "الشاب المتدين" فقد ظن بعض البسطاء أن ما فعله هو الإسلام ، واتسعت قناعاتهم بما يقول حين حدثهم عن فكرة الأفضلية للمسلمين على غيرهم منطلقا من فكرة "الاستعلاء بالإيمان" التي صكها سيد قطب في غير سابقة فقهية من خلال كتابيه في ظلال القرآن ومعالم في الطريق.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل امتد ليشمل كثيرا من السلوكيات المعادية للمسحيين، بل وللمسلمين ممن يرى "الشاب المتدين" أن عقيدتهم تحتاج للتقويم بعد أن شابها الكثير من مظاهر الشرك بالله - والعياذ بالله-  وفي مقدمتهم المتصوفة.

حين علمت بالأمر تصورت أن بإمكاننا أنا وصديقاي إقناع "الشاب المتدين" بأن ما فعله خطير، وسيدخل الحي المسكون بروح التصوف السمحة والذي يعيش مسلموه ومسيحيوه منذ سنوات طويلة في وئام تام في دوامة عنف لا يعلم مداها غير الله.

وحدث أن استجاب الشاب لدعوة الجلوس معنا ومناقشتنا في الأمر، وهو للحق كان شابا خلوقا لم يضبط متلبسا قبل هذه الأيام بما يمثل اعتداء على خصوصية أحد.

وجلسنا لكن قبل أن نبدأ الحديث فيما أهمنا وغمنا فاجأنا الشاب بأنه مستعد للنقاش في أي شيء إلا ما يخص "العقيدة" وأنه يقدرنا دون شك "كان أحدنا صديقا لوالده" لكن تقديره لنا شيء وعقيدتنا شيء آخر.

فقلت له دون مقدمات ما يهمنا هو ألا تشكل قناعاتك قيدا على سلوك الآخرين وألا يدفعك إيمانك بصحة ما تعتقد إلى إجبار الناس ودفعهم على السير في الطريق الذي اخترته لنفسك لأن هذا إن حدث فسيكون مناقضا لصحيح الإيمان كما أفهمه وجوهر الإسلام كما أعرفه.

فرد الشاب بهدوء قائلا: هذا تماما ما كنت أعنيه بألا نقاش في العقيدة.

فنحن السائرون على نهج السلف الصالح نعرف تماما ما هو الإيمان وما هو الإسلام وهو بالتأكيد غير ما تعرفه وما تفهمه أنت.

بداية خشنة كنت أتوقعها

وبعد ساعة أو يزيد من النقاش وبدافع الاحترام لصديق والده فقط وعدنا الشاب بتخفيف حدة هجومه هو وجماعته على المسيحيين والمتصوفة من سكان الحي إلى أن يقضي الله أمرا كان ينتظره الشاب وهو نجاح أحد المرشحين في الانتخابات الرئاسية ممن ينتمي لهم وساعتها سيكون لكل حدث حديث.

انصرف الشاب وتمنى ثلاثتنا ألا نعيش لنرى هذا اليوم، لكننا رأينا لاحقا ما هو أسوأ منه.

إن المعضلة الكبرى في فكر جماعة الإخوان والجماعات السابقة واللاحقة لها من أسرى فكرة "الفرقة الناجية" هو هذا الشعور البغيض بالأفضلية على عموم المسلمين، وبالطبع على من عداهم من أهل الديانات الأخرى، وهو ما يسميه سيد قطب "الاستعلاء بالإيمان".

وتعريف الإيمان في هذا الموضع ليس ما قاله النبي الأكرم: "الإيمان هو أن تؤمن بالله ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خير وشره".

بل هو الإيمان بما يراه سيد قطب في تفسيره وبما رآه كل زعيم تنظيم إرهابي خرج من تحت عباءته، فحسن البنا كان يرى أن جماعته هي الفرقة الناجية وقسم الناس إلى فسطاطين فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر ثم جاء سيد قطب ليكمل الطريق بوضوح كشف مناورات البنا وعلى دربه سار شكري مصطفى ومن بعده كل أمراء الدم حتى أبو بكر البغدادي الذي قال إنه قرأ كتابات سيد قطب في السجن وآمن بكل ما كتبه.

والكارثة الأكبر أن كل جماعة من تلك الجماعات تزايد على من سبقها وتوسع نطاق التكفير ليشمل جماعات أخرى ربما كان زعيمها مجرد عنصر صغير فيها قبل أن يعلن نفسها أميرا لجماعته الجديدة.

وليس ببعيد عنا ما فعله أمراء الإرهاب في أفغانستان وما ارتكبه قادة التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق وفي ليبيا وجنوب الصحراء من جرائم، وما عشناه نحن هنا في مصر من مزايدات أمراء الدم.

ففيما عرف بجمعة قندهار كان ميدان التحرير في قلب القاهرة مغطى برايات مختلف التنظيمات الإرهابية التي كانت تسعى لكي تكون مصر إسلامية كل حسب مفهومه الذي يختلف إلى حد الاقتتال عن مفهوم الآخرين.