بعد عشرين عاما على الغزو العسكري الأمريكي لأفغانستان، قرر الأمريكيون سحب قواتهم من البلد، رغم أن السبب الذي أتى بهم إليه مازال قائما، وقد يكون أخطر من ذي قبل، فحركة طالبان موجودة وتتوسع، بل تدعي بأنها سيطرت على 80 مقاطعة من مقاطعات أفغانستان الـ 421.

هل فشل الأمريكيون في إزالة خطر طالبان وإقامة حكم ديمقراطي في أفغانستان، كما فشلوا في العراق؟ الواضح أن هذا هو بالضبط ما حصل في البلدين. ولكن ما هي أوجه التشابه والاختلاف بين العراق وأفغانستان، ولماذا فشل الأمريكيون في كلا البلدين رغم الاختلاف الكبير بينهما، ثقافيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا ومؤسساتيا؟

لم يستطع الأمريكيون أن يزيلوا قوة محلية لها وجود شعبي قوي رغم الخسائر الكبيرة التي ألحقوها بها، لذلك بقيت حركة طالبان موجودة على الأرض في أفغانستان لأن هناك شريحة كبيرة من الشعب الأفغاني، وبالتحديد بين البشتون، الأكبر بين الفئات الأفغانية، يؤيدون طالبان، رغم كل ما تميزت به من بدائية وقسوة وعنف وانعزالية واستهانة بالحياة الإنسانية والقيم العصرية والرأي العام الدولي.

وفي الوقت نفسه، لم يستطع الأمريكيون القضاء على حزب البعث في العراق، رغم كل القرارات التي أصدروها باجتثاثه من العمل السياسي وإدارة المؤسسات المهنية العراقية. وعلى الرغم من أن معظم العراقيين لا يرغبون في عودة حزب البعث إلى السلطة، فإن فشل الجماعات الإسلامية الشيعية التي تولت السلطة بعده، فشلا ذريعا ومريعا، في تقديم أبسط الخدمات التي يفترض بأي حكومة أن تقدمها لشعبها، كالأمن والوظائف والصحة والتعليم والكهرباء والماء الصالح للشرب وباقي الخدمات الأساسية، وإقدامها على سرقة أموال الدولة وقتل المخالفين لها في الرأي، قد جعل كثيرين في العراق يشعرون بضرورة وجود حكومة قوية، كحكومة صدام حسين، وأن هذه الجماعات لا تختلف أخلاقيا عن النظام السابق، سوى أنها أكثر فشلا وتبعية، وأقل قدرة على حفظ سيادة العراق واستقلاله وأمنه وثرواته.

لكن حكومة قوية في العراق لا يمكن أن تأتي عبر صناديق الاقتراع، حاليا على الأقل، بسبب النظام الانتخابي والتشرذم السياسي والحزبي والتدخل الإيراني، وإساءة فهم الديمقراطية بين شرائح مهمة في المجتمع العراقي، خصوصا شريحة السياسيين الواسعة. الجماعات أو العصابات العائلية والسياسية الحالية في العراق لا تستطيع أن تبني دولة من أي نوع، فمنطقها قروسطي متخلف، وهي غير قادرة على التعايش مع الآخر المختلف، بل تنقَضُّ على كل من يختلف معها وتقتله غيلة، حتى اضطر المعارضون غير القادرين على حماية أنفسهم إلى الفرار إلى دول العالم الأخرى، أو إلى إقليم كردستان، للبقاء فوق التراب (حسب تعبير الشاعر الراحل سعدي يوسف). والأغرب أن البعثيين الذين تعرض الأكراد في ظل حكمهم إلى أبشع عمليات الإلغاء والقتل والتهجير، وجدوا الأمان والحماية في إقليم كردستان فقط!

الأمريكيون بدأوا بداية خاطئة في العراق عندما أعلنوا ابتداءً أنهم محتلون بعد أن ادعوا سابقا بأنهم محررون، وحكموا العراق حكما مباشرا، الأمر الذي أغضب العراقيين جميعا، وفي مقدمتهم حلفاء الولايات المتحدة، وثانيا لأنهم كانوا في عجلة من أمرهم، إذ أرادوا حلولا سريعة لمشاكل وقضايا معقدة تستغرق حلولها عشرات السنين في العادة، وثالثا لعدم فهمهم طبيعة العراق والمجتمع العراقي وعدم استعانتهم بالخبراء والمطلعين المحايدين، ورابعا لعدم اكتراثهم بالنتائج كما بدا من تصرفاتهم التي انتقدها المسؤولون والخبراء الأمريكيون أنفسهم، من أمثال لاري دايموند في كتابه (النصر الضائع) وأحمد هاشم في كتابه (المقاومة ومواجهتها في العراق)، وحتى الحاكم (المدني) بول بريمر انتقد بعض سياساته وقراراته في كتابه (عامي في العراق) وفي مقابلات تلفزيونية متعددة.

لم يستطع الامريكيون أن يفرضوا الديمقراطية على أفغانستان لأن هناك قوى غير ديمقراطية متنفذة في البلد، أبرزها حركة طالبان، بينما القوى التي تؤمن بالديمقراطية أو تدعي الإيمان بها، بقيت متفرقة ومتناحرة، ويسعى قادتها لتحقيق مكاسب شخصية، الأمر الذي سهَّل على حركة أصولية قوية شرسة أن تشتتها بسهولة رغم الدعم الأمريكي العسكري والمالي والاستشاري غير المحدود لها.

وقد حصل أمر مشابه في العراق، فلم يتمكن الأمريكيون أن يقيموا نظاما ديمقراطيا، لأن القوى السياسية التي تعاونوا معها، إسلامية كانت أم قومية أم علمانية، لم تكن تؤمن بالديمقراطية وغير مستعدة للقبول بها، رغم كل الشعارات التي أطلقتها ورددتها وما زالت ترددها. نعم هناك تأييد واسع للنظام الديمقراطي بين الشعب العراقي، خصوصا بين الجيل الجديد، وقد دفع هذا التأييد القوى الإسلامية تحديدا إلى تبني خطاب ديمقراطي ظاهري، وتغيير أسمائها في كل انتخابات إلى أسماء جديدة مدنية المظهر، كي تخدع الناخبين للتصويت لها وتبقى في الواجهة. ويبدو أن الخدعة نفسها سوف تمارس في الانتخابات المقبلة كما يظهر من تأسيس أحزاب جديدة موالية لقادة الجماعات الدينية السابقة.

نجاح الديمقراطية في أفغانستان لم يكن متوقعا لأن البلد كان ممزقا منذ الاحتلال السوفيتي له أواخر السبعينيات، ولم يكن فيه جيش ولا مؤسسات ولا مجتمع مدني أو اقتصادي أو سياسي، كما أن نسبة المتعلمين بين سكانه منخفضة مقارنة بالعراق. كانت هناك جماعات دينية مسلحة متناحرة ومتحاربة، وعندما دخل الامريكيون بجيوشهم حاولوا تصنيع طبقة سياسية وطنية ديمقراطية من تلك الجماعات، مطعمة بأفغان الشتات، من اللاجئين الذي فروا عبر السنين بسبب الحروب والاحتلال السوفيتي.

وقد شجع الأمريكيون أفغان الشتات ليشكلوا جمعيات وطنية أو مجالس عليا (لويا جيرغا) عقدت اجتماعاتها في ألمانيا وإيطاليا وقبرص في سبتمبر/أيلول عام 2001، لكنهم أخفقوا في توحيد جهود الأفغان لبناء دولة عصرية متماسكة، خصوصا بوجود التنوع القومي والديني والثقافي واللغوي الشديد في البلد، إذ توجد أقوام وأعراق وأديان كثيرة في أفغانستان. هناك البشتون (42%) والطاجيك (27%) والأوزبك (9%) والهزارة (9%) والأيماك (4%) والتركمان (3%) والبلوش (2%) وقوميات وطوائف صغيرة أخرى (4%) (النسب أعلاه مستقاة من كتاب حقائق العالم). أحد المؤرخين قال ذات مرة إن أفغانستان بلدٌ شُكِّل من مناطق وعرة تابعة لبلدان أخرى غير راغبة بضمها لصعوبة السيطرة عليها!

لكن النجاح كان ممكنا وسهلا في العراق لو أن الأمريكيين خططوا للأمر جيدا ولم يعادوا شرائح سياسية أو دينية من السكان، كما بدوا وكأنهم يفعلون، ولو لم يرتكبوا خطأين شنيعين هما حل الجيش والأجهزة الأمنية العراقية، واجتثاث حزب البعث وحظر أعضائه من ممارسة السياسة والعمل في المؤسسات المهنية والإدارية العراقية. حل الجيش والأجهزة الأمنية أدى إلى شيوع الفوضى وأعمال السلب والنهب والثأر والقتل وتشكيل المليشيات، أما اجتثاث البعث فقد همَّش شريحة كبيرة من الشعب وأبعد ذوي الخبرة عن إدارة المؤسسات العراقية في القطاعات كافة، الأمر الذي فاقم الفوضى الأمنية والخدمية وأصاب المجتمع كله بالإرباك، خصوصا عندما وجد آلاف الناس، الذين كانوا قبل أيام مديرين ومسؤولين متنفذين، أنفسهم عاطلين ومهمشين وملاحقين حكوميا وشعبيا.

لقد تسبب ذانك الخطآن في تعقيد المشهد كليا، فالفوضى الأمنية والخدمية والإدارية المتولدة كنتيجة مباشرة لهما، قد دفعت الأمريكيين إلى التحالف مع القوى الكردية المسلحة والقوى الدينية المسلحة التي تدعمها إيران، والتي كانت تعلن عداءها لهم، لملء الفراغ الذي تركته الأجهزة العراقية السابقة، بينما أهملوا حلفاءهم الطبيعيين من القوى المدنية والديمقراطية التي لا تمتلك السلاح، وقد أودى هذا الخطأ الفادح بالديمقراطية وجعلها تبدو مزحة للمازحين. الديمقراطية لا يمكن أن تؤسسها قوى مسلحة تؤمن بولاية الفقيه وتأتمر بأمر قادة دولة أخرى، ولا تعرف معنى للدولة الحديثة وسيادتها وقدسية حدودها، وتقسِّم الشعب على أسس طائفية. الأحزاب الديمقراطية لا يقودها رجال دين درسوا في المساجد والحوزات ولم يكتسبوا خبرات سياسية واقتصادية، ولا معرفة بكيفية إدارة العلاقات الدولية.

أما البعثيون، الذين كانوا بمثابة جيش من الأتباع المطيعين "للقائد الضرورة" صدام حسين، فلم يستطيعوا بعد اختفائه أن ينظموا أنفسهم ويتعاملوا مع الاحتلال ببراغماتية يفرضها الواقع الجديد، ولو أنهم كانوا منظمين سياسيا وقادرين على التكيف مع الوضع الجديد المفروض على الجميع، وأبدوا مرونة في التعامل مع الأمريكيين، لكانوا قد حافظوا على قدر من وجودهم السياسي، وربما شاركوا في الحكومة وحافظوا على تماسك الدولة العراقية، خصوصا وأنهم يمتلكون الخبرة والتنظيم، لكن قيادة صدام تركت آثارا كارثية عليهم، إذ ألغت الحزب عمليا واجتثت الرأي الآخر كليا، فبقوا على هذا الوضع حتى ألقي القبض على صدام أواخر عام 2003. وبعد أن أدركوا أن صدام انتهى، انقسموا إلى عدة جماعات، بينما تخلى كثيرون منهم عن الحزب وتكيفوا مع الوضع ودخلوا ضمن الجماعات الجديدة فحصلوا على مناصب ومكاسب.

أما الجماعات العراقية غير الدينية فكانت متناحرة، وكان قادتها يريدون القفز على السلطة بأي ثمن. وعندما قرر الامريكيون منح أياد علاوي الفرصة الأولى وتعيينه رئيسا للوزراء، أعلن الجلبي عصيانه، وعندما داهم الأمريكيون مقراته فر إلى جهة مجهولة وعاد لاحقا بعد حصوله على تطمينات. انضم الجلبي إلى الجماعات الإسلامية الشيعية، وساعدها في توضيح الموقف الأمريكي وتداخلات السياسة الامريكية والدولية التي يجهلها الإسلاميون. فمنحوه منصبا شكليا هو أحد ثلاثة نواب لرئيس الوزراء، ولم يدُم بقاؤه في المنصب سوى بضعة أشهر، ليلفظه الإسلاميون كليا من صفوفهم في الانتخابات الثانية. وعندما أخفق في الحصول على مقعد نيابي، عاد لينضوي ضمن قائمة (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) بقيادة عبد العزيز الحكيم ثم ابنه عمار، وقد "فاز" بمقعد واحد.

أما علاوي فلم يتمكن من تكوين جبهة سياسية متماسكة إذ ظل أسيرا لأفكاره السابقة ولم يتعلم من أخطائه أو يتكيف مع ضياع السلطة منه وبقي يدخل الحكومة وينسحب منها ويتذمر دون جدوى، بدلا من أن يجمع القوى الوطنية العلمانية في حركة سياسية ديمقراطية واحدة ليشكل منها جبهة قوية مؤثرة.

يبدو أن الأمريكيين قد قرروا مغادرة أفغانستان وترك أهلها يحلون مشاكلهم بأنفسهم، سواء بالطرق السياسية أو العسكرية، تماما مثلما فعلوا في العراق عام 2011، عندما غادروا وتركوا أمر العراق للعراقيين، الذين احتربوا فيما بينهم وأدخلوا إيران إلى بلدهم. قد تكون المغادرة حلا مناسبا للأمريكيين حاليا، بسبب انشغالهم في أمور أكثر أهمية، تتعلق باقتصادهم وترتيب علاقاتهم الدولية مع أوروبا والصين وروسيا، والتعامل مع جائحة كورونا، لكنهم لن يستطيعوا التنصل من مسؤوليتهم في التأسيس لكل هذه الفوضى في العراق وأفغانستان، والتي ستعود لتلاحقهم في المستقبل، وقد يضطرون إلى العودة بجيوشهم إلى المنطقة لتصحيح الأوضاع.