هوية كل إنسان هويّتان: هوية موهوبة، تسكن الاسم المُعار عند الميلاد، ثم هوية أخرى عصيّة، أبعد منالاً، يصنعها المولود بكفاءته، لتترجم مع الأيام رسالته في واقع تجربةٍ دنيوية هي فحوى وجود.
الاسم المُعار على سبيل الهبة يعبّر عن نوايا الأبوين في حقّ صنيعهما، في حقّ وريثهما، الذي سيحمل وزرهما من بعدهما، ليحقّقا به وجوداً بعد فنائهما، ويعوّلان عليه لتحقيق خلودٍ في البعد الذي يستوي فيه الوجود والعدم، بوصفه الطرف المخوّل بأن ينفيهما كليهما. ولكنهما يحرصان، على تحميله أملهما، أمنيتهما، حلمهما، من خلال دلالة الاسم الذي يخلعانه على وريثهما، قد يحالفه الحظّ في تحقيق نصيبٍ من نيّتهما، وقد يخذلهما، فيخيّب ظنّهما، كما يحدث في أغلب الأحوال.
أما الهويّة الثانية، في تجربة كل إنسان، فهي الهويّة المكتسبة، لا بحرف الاسم المُنال بالمجّان، ولكن بمشيئة التجربة الدنيوية، وهو الاسم الجدير بأن يُعوَّل عليه كهوية، لأنه ترجمة لمغامرة مغسولة بسلسبيل العرق، ونزيف الدمّ. وهو الاسم الذي تفاخر به أمم العالم القديم، فتورده في الحوليات محاطاً بهالة قدسية، قد تستقيم في ممارسة طقسية، يتحول الاسم المكتسب بموجبها تميمةً تُجير من الشرور، فتبتلع اسم المجّان، لتنفيه.
وهو ما يعني أن المبدأ المعتمد في حقّ الأسماء هو الاعتداد بالصفة، المترجمة لحصيلة التجربة الحرفيّة في واقع الحياة العمليّة، الجديرة بالتحوّل اسما، لأنها تعبيرٌ عن حضورٍ في رسالة، وترجمانٌ لمعنى في وجود.
والصفة هنا تمتلك المؤهّل للتحوّل لقباً، لتزحزح الاسم العائلي عن موقعه كعلامة، عن موقفه كحجّة، لتستعير صلاحيّاته في البُعدين: الإيجابي، أو السلبيّ؛ أي سواء كغنيمة برأسمال مجدٍ، أو كهزيمة بمكوس حدٍّ، مستنزل بحرف قارعة.
وصدمة القارعة كثيراً ما كانت مبرّراً للإطاحة بكل الأسماء السالفة، المكتسبة مجّاناً، وما ماثلها من ألقاب، لتقطع دابرها، كي تخلي المجال لبصمتها القاطعة، كجنسٍ من امتثالٍ لهيبة هولٍ. هَولٍ هو في العرف السائد، كلمة قدر، وبالتّالي تنزيلٌ مقدّس.
فالبلاء أيضاً وسامٌ ربوبيّ.
بحرف هذا الوسام استجارت أرملة الميثولوجيا، في حدادها الفجيع، لتنسج منه مرثيّتها، في حقّ حميمها القتيل، بيد شقيقه الشقيّ، في صيغةٍ أقدم عهداً من الأمثولة التي ورثناها من أسفار العهد القديم، متمثّلةً في الشقيق قابيل، الذي لم يتردّد في أن يسفح دم شقيقه هابيل، ليستولي، بهذا الفعل المنكر على الأنثى، على الشقيقة.
فـ"شيث" أيضاً أجهز على الشقيق "أوزوريس" بسبب الغيرة، وكان على الشقيقة، حميمة "أوزوريس" أن تجني فاكهة الجريمة، وساماً، صار في تجربتها ختماً غيبيّاً، محا الاسم المكتسب من مستودع الذاكرة، ليغدو بمثابة الاسم الشرعي البديل، الذي لن ندرك مدى تراجيديّته، ما لم نستطلع فحواه، ترجمةً من لسانٍ داهيةٍ لم يعتد أن يعترف بالاسم المستحقّ، بدون شهادة من تجربة كانت، في عُرفه، دوماً بمثابة برهان.
فما هي الدسيسة الدلالية التي تسكن اسم "إيزيس" كما ورثناه طلسماً مستغلقاً من المصادر المصرية، المجبولة بروح الاستسرار، المفتونة بطبيعتها بسحر الطلسمات؟
باستجواب اللسانين الشقيقين، الليبي والمصري القديمين، سنكتشف أن كلمة "إيزيس" هي نفسها كلمة "أسيس"، (بإبدال شائع بين السين والزاي)، الدالّة، في هاتين اللغتين، على الهمّ الشديد. ليس الهمّ الشديد العابر، ولكنه الهمّ الشديد، المقيم أيضاً. أي أنه ليس الهمّ الشديد في العمق، أي المكين في المكان، ولكنه جنس الهمّ الموصول في الزمان أيضاً، أي المسكون بروح الديمومة. وهو تشديدٌ متعمّدٌ للإيحاء بغيبيّته، ليغدو همّاً ذات طينةٍ روحية أوّلاً، ثم يستعير صيغة ما ورائية في هيمنته ثانياً. أي أنه كفاحٌ بطوليّ، في محاولة لترجمة فجيعة مختطّة بحبر واقعٍ حرفيّ، ولكنها تكتسب بُعداً ميثولوجياً بما هي تجربة نزيف روحي.
هذا النزيف الروحيّ، هذه الفاجعة التي تضيق اللغة بحمولتها، فلا تجد سوى "أسيس" للتعبير عن أنين قلب مخلوقٍ مكلوم، الذي يعني في العربية جرحاً بلا ترياق، لا لشيء إلّا لأنه نزيفٌ خفيّ، ولذا فهو عصيّ، وجيع، بل فجع، بسبب غياب الترياق.
فالطبيعة هي التي لقّنتنا الدرس الذي يقول إن الأنثى لم تُخلق إلّا لتحبّ، ولذا لا وجود لقوّة يمكن أن تقارن بقوّة المرأة إذا أحبّت، لأنها هي هذا الحبّ مجسّداً، سواء في هوية الأمومة، سواء في ماهيّة الحميمة. يكفي أنها هي مَن اعتنق الوصيّة، وقَبِلَ بتحمّل المخاض المميت الذي استقدم العالم من غيوب العدم. ومن الطبيعي أن يتحوّل وجود نموذج كـ"إيزيس" إلى "أسيس"، ذلك الدّاء الذي تنزف فيه الروح، لتنقلب تجربة الأرملة الدنيوية إلى ورمٍ خبيث، يفترس فيها وجودها برمّته، بلا أملٍ في خلاص!
هذا الـ"أسيس"، المحرّف في "إيزيس"، هو جناية القدر في حقّ الحميمة، ليستنزل فيها الحجّة، الجديرة بأن تتحوّل وصيّة أجيال، مؤكّداً، في ذات الوقت، على حقيقة جديرة بأن تستوقفنا، وهي افتتان القدر بكل أولئك الذين اصطفاهم كي يبتليهم، ليقينه بأن المخلوق الفاني لا يستعير خصال خلودٍ، كانت دوماً حكراً على الأرباب، ما لم يخضع لتجربة نزيف الروح، التي لا تتوّج بخلاص البعث، ما لم تعبر جحيم ميتة هذا النزيف.
و"إيزيس"، التي لم تكن يوماً سوى تجسيدٍ مجازيّ، بل حرفيّ، لمعراج أسيس، من الطبيعي أن تعتنق دين هذا الحدث الجسيم، ليكون لها الاسم، الأحقّ بأن يَجُبَّ اسم المجّان، بسبب حجم المكوس، المدفوعة في سيرة ذلك الطواف الجنونيّ في أنحاء وطنٍ، هو هبة سيلٍ لا يفنَى، لتجمع حول المجرى الخالد أشلاء الحميم المقتول بطعنة الغدر، تلبيةً لنداء نوح الروح، فلا تكتفي بالتغنّي بالمراثي للتنفيس عن همّ اللا ترياق، ولكنها تأبَى إلّا أن تتوّج الحداد بالقربان: تتناول النصل لتجتثّ رأسمال الجمال في رأسها. تقطع شعراً كان دوماً فصوص تاجٍ في رأس المرأة، لتطرحه قرباناً على فقد الحميم. إنه القربان الذي لعب دوراً أسطوريّاً جسيماً في تاريخ هذا اللغز المسمّى "مزر"، الدالّة في، لغة البدء، على معنى الريادة، في الفوز بالسبق في سيرة الحضور قيد الوجود، لأن اسم مصر (مزر) نفسه تنكّر لهويّة الاسم المجاني البدئي، لينتحل منذ ذلك اليوم اسم "إيجبت"، كما تناقلته الأمم الأجنبية كاليونانية، ترجمةً من كلمة "آجبات"، الدالّة في اللغتين الليبية والمصرية القديمتين على القطع، كما لازالت تجري في قاموس أحفاد قدماء الليبيين والمصريين طوارق الصحراء الكبرى إلى اليوم. وهو ما يعني أن عملية جراحية دامية في مقام استئصال رمز الجمال، هي حدث ٌتاريخي من الخطورة بحيث يكتسب مرتبة التضحية، الجديرة بأن تكون علامة في عنق الأمّة، حقّ للوطن المصري أن يحتفي بها، إلى الحدّ الذي يعتنقها ناموساً يرتضيه كاسم بديلٍ في اسم الوطن، لأن ما يملك قيمة حقاً ليس الاسم الذي نناله هبة مجّان، ولكنه الاسم المغسول بالألم، بالتضحية، بنزيف الروح، الأسمى مقاماً من نزيف الدمّ، ليتبوّأ منزلة المغامرة التطهيرية، المغامرة التغييرية، الجديرة بأن تستوي في خلاصٍ هو: الحرية!
ملاحظة ١:
بين اسم الهبة، واسم الموهبة، تستوي بُنية علاقة لا تخلو من منطق جدل. ففي حين يحاول أولياء الأمر استثمار الزمن الضائع في فحوى اسم الهبة، يحاول آخرون أن يراهنوا على ثمار المستقبل، مستجيرين بتعويذة الأمل، المنتظر من اسم ستسفر عن ذخيرة مواهب مخلوقٍ أُريد له أن يحتفر لنفسه مزايا البطل، في واقعٍ معادٍ بطبيعته لكل مريد حلم. ففي حين يقنع فريق بخلع أسماء الأسلاف، سيّما في حال تميّزوا بخصال ذات شأن، على أبناءٍ لا يرجون من ورائهم سوى التحلّي بمكارم الأخلاق، يروق البعض الآخر أن يحكّموا في الصفقة جناب القدر، عندما يخلعون على الذرية أسماء تترنّم بفضائل المثال، تيمّناً بخصال أنبياء، أو بمزايا أبطال. أي الرهان على نيل المثال، مقابل القبول بالمتاح، في موقف الفريق الأول، عملاً بوصيّة "آنهي"، ناموس الطوارق الضائع، الذي يحرّض على الاقتداء بالأسلاف في سيرة الأسماء، لأن التجربة برهنت على قدرة الأسلاف على أن يعيروا خصالهم لأخلافٍ استجاروا بتلابيب أسمائهم، طمعاً في أن يتقمّصوا أرواحهم، فيُفلحوا في حرفة تجيرهم من جوع، أو ينتحلوا موهبةً تأمنهم من خوف، لأنّ التيمّن بالاسم هو فأل خير في كل الأحوال؛ فإن لم يضمن الفوز بالخصلة المأمولة في حدودها القصوى، فعلى الأقل سوف يحققها في حدودها الدنيا، وإلّا لما اضطررنا بقبول ألقابٍ مخيّبة للآمال، مثل "الإسكافي" الشائع في المجتمعات الأوروبية، فنتغنّى به في "شوماخر" في الألمانية، أو "سابوجنيكوف" في الروسيّة، أو "ساباتيرو" في الإسبانية، أو "شفيتش" في البولندية، التي تستعير مدلولاً آخر، مدلولاً مزدوجاً، مخفيّاً في مفردة، ترفض الاعتراف بالواقع، المترجم في حرفة وضيعة كصنع الأحذية، فتكابر، متعمّدة تمويهنا عن الحقيقة، عندما تغتصب عمداً دلالة مأمولة في لفظة "شيف" السامية، الدالّة على الرئاسة، علّها تنفي عار دنسٍ، يسكن حرف حرفةٍ مهينةٍ كمعاندة الأحذية! وهو تزييف ليس غريباً عن طبع الإنسان البولندي بالذّات، الذي يدري كل مَن عايش واقعه يوماً، كم تُعتبر الألقاب في حياته معبودات، تُتلى في محرابها الصلوات، الاستهانة بها بمثابة تجديف في حقّ قدس أقداسٍ، لأنها في عرف القوم مكانة، مناصب، تترجم سلطاناً على الموجودات.
ملاحظة 2:
لم تكن "إيزيس" في الميثولوجيا المصرية لتصير نموذج المرأة وجودياً لو لم تتحمّم بفحوى الاسم البدئي العصيّ، المترجم في حرف "العناء الشديد"، لتصبح هذه اللعنة في تجربتها هويّة. هويّة ما لبث أن تباهَى بها المجتمع الأمومي، لتكون حجّته في تأسيس نظام عالمي ساد دهراً. يكفي أن نحتكم إلى الإصحاح الثالث من سفر التكوين، حيث تتنزّل اللعنة في حقّ ثالوث البطولة في اقتراف المعصية (الحيّة والمرأة والرجل)، حيث تتكرر سيرة القصاص في حقّ القطب الأنثوي، مترجماً في كلمة "التعب" مرّة، وفي كلمة "وجع" ثانياً، وفي كلمة "اشتياق" ثالثاً، وفي عبارة "يسود عليك" رابعاً: "وقال للمرأة تكثيراً أُكثّرُ أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولاداً. وإلى رجُلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك". (التكوين: 16 ,3). وهو ما يعني أن "الألم"، أو كما في اللسان البدئي "العناء الشديد"، يغدو قدر كل إيزيس (أسيس) في هذا العالم، يغدو قدر كل امرأة في هذا الوجود؛ وما هيمنة المرأة على الواقع الإنساني في العالم الأقدم سوى جنس من تعويض. تعويض لشراء صليب ألمٍ جسيم، ناجم عن قصاص، جزاء لعنةٍ، لعب دور البطولة فيها المبدأ الذي غدى في طينتها طبيعةً: الإغواء.