عندما فصل المؤرخ هيرودوت التاريخ عن القصص الأسطوري، استحق بذلك أن يُلَقَب بـ"أبو التاريخ" لأنه وضع التاريخ في موقعه كأحد العلوم الإنسانية.
وإنسانية علم التاريخ تعني أن موضوعه الأساسي هو "الإنسان" بكل ما تحمله الكلمة من معاني، فبطل التاريخ هو الإنسان بخيره وشره وقوته وضعفه وانتصاراته وإخفاقاته وإيجابياته وسلبياته.. مما يعني أننا لم نعد بصدد تناول معركة لها طرفان أحدهما خير مطلق والآخر شر خالص، بل نحن نتناول بقرائاتنا وكتاباتنا كائن يجمع مختلف الصفات والتناقضات.
ولا يخطئ القارئ فيحسب ألا مكان للتمييز بين كلا من الخير والشر في علم التاريخ، بلى يوجد خير وشر وصالح وطالح.. ولكن علينا ألا نتعامل مع الشخص التاريخي باعتباره إما ملاكًا طاهرًا أو شيطانًا رجيمًا وإنما ببساطة باعتباره بشر.
أي محاولة لمخالفة هذا المنهج في كتابة التاريخ هي ردة لهذا العلم، إذ أنها تفصله عن إنسانيته وتهدم معناه ورسالته.
ولنأخذ وقفة هنا، فما سبق لا يتعارض مع وجود كتابات عن جانب واحد من شخصية أو حالة تاريخية، كالكتابات عن مناقب ومميزات شخص تاريخي، أو في المقابل عن سلبيات هذا الشخص أو تلك الحالة، ولكن في هذه الحالة تفرض كلا من الأمانة والموضوعية العلمية على الكاتب أن يكون صريحًا ومباشرًا مع القارئ في أنه إنما يتناول بكتابه أو مقالته هذا الجانب بالذات من موضوع كتابته، وإلا وقع في التدليس بإيهامه المتلقي أنه -الشخص التاريخي- إنما يقتصر على الجانب المذكور.
وللأسف فإن تلك الكتابة الانتقائية هي المدرسة التي تنتمي لها كتابة المنتمين لفكر وجماعة الإخوان الإرهابية.. فهم لا ينطلقون في تناولهم للشخصية أو الحالة التاريخية من إنسانيتها وإنما من منطلق واحد هو: "هل تتوافق تلك الشخصية/الحالة مع فكر ونمهج وانحيازات وأهداف جماعة الإخوان المسلمين، أم تتعارض معها؟".
فلنأخذ مثالا لذلك الإخواني علي الصلابي المدرج على قوائم الإرهابيين المطلوبين، فالمطالع لكتاباته يراه إذا ما "رضي" عن شخص تاريخي خلع عليه أثواب النقاء وألبسه أجنحة الملائكة ووضع على رأسه هالات القديسين.. والقارئ لكتابه" الدولة العثمانية" يدرك ذلك بسهولة بالغة.. ف"أبطال" كتابه لا يخطئون ولا يسيئون النوايا ولا الأفعال، وأية إخفاقات لهم إنما هي نتاج "تآمر أعداء الإسلام والمسلمين"، وما يُنسَب لهم من جرائم هو "محض افتراء من الحاقدين".
أما من يقعون في دائرة سخطه -للأسباب الإخوانية سالفة الذكر- فهم شياطين ملعونين مشكوك في انتمائهم أصلا للمسلمين، كمحمد علي باشا الذي أفرد له الصلابي في كتابه المذكور فصلا كاملا اتهمه فيه بالماسونية والخروج عن الدين والتآمر عليه، ولا ينسى الصلابي أن يضم إليه "المغضوب عليهم إخوانيًا" كمصطفي كمال أتاتورك والرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر فيكيل لهما نفس الاتهامات ويقول أنهما قد تعلما من محمد علي باشا وأكملا "مؤامرته".
ومن النماذج الأخرى لهذا المنهج المختل الإخواني الهارب محمد إلهامي الذي يقدم نفسه باعتباره مؤرخًا، فهو قد جند قلمه لانتقاء كل شاردة وواردة من التاريخ ليقوم بعدها بـ"لَيّ" عنقها بما يخدم فكر جماعته ثم يختم ما تمخض عنه بوَصلة من السب واللعن والاتهامات في الدين للدولة المصرية والنظام المصري ورئيسه الرئيس عبد الفتاح السيسي.
إذن فقد قرر هؤلاء أن يضحوا بانتماء علم التاريخ للعلوم الإنسانية، فنصبوا من أنفسهم ميزانًا للحق ومن هذا المنطلق راحوا يقسمون البشر إلى "معي=خير" و"ضدي=شر"، ولا عزاء للأمانة العلمية ولا للموضوعية ولا لقرون من كدح المؤرخين لتطوير وحفظ علم نفيس تترتب على مراعاة الأمم له نهضتها أو تأخرها!
وللحديث بقية..