منذ نحو قرن من الزمان، وقبل أن تسمى "هيئة الإذاعة البريطانية"، كان اسم بي بي سي هو "صوت الإمبراطورية". ذلك في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا تبسط نفوذها على مساحة واسعة من العالم من آسيا إلى أميركا اللاتينية وكان الاستعمار البريطاني يوصف وقتها بأنه "مملكة لا تغيب عنها الشمس".
وهناك نكتة اسكتلندية شهيرة عن هذا الوصف تعكس موقف الاسكتلنديين من انجلترا. تقول النكتة: "هل تعرف لماذا وهب الله الإنجليز مملكة لا تغيب عنها الشمس؟ ذلك لأنهم لا يوثق بهم في الظلام".
رغم وجود بي بي سي وسكاي نيوز على ساحة الإعلام التلفزيوني البريطاني، ومعهما آي تي في، بالإضافة إلى عدد كبير من القنوات الأخرى، إلا أن بعض الإنجليز رأوا أن بريطانيا بحاجة لقناة تلفزيونية مختلفة. الفكرة بالأساس متأثرة بشبكة فوكس نيوز الأميركية التي تقدم محتوى يمزج بين الخبر والرأي والمعلومة في سياق يطغى عليه الهوى السياسي. ربما بدأت الفكرة مع فترة رئاسة دونالد ترامب، الذي بلا شك كانت رئاسته "إعلامية" بامتياز – بغض النظر عن رأيك فيها، معها أو ضدها.
لكن الشخص الرئيسي وراء المشروع أقنع مستثمرين من اليمين السياسي بأن السوق يحتاج إلى محتوى إعلامي منحاز سياسيا، وأن صعود الشعور القومي واليمين المتشدد يشكل سوقا جيدة.
ذلك الشخص هو أندرو نيل، مذيع سابق في بي بي سي كان يصبغ عمله في المؤسسة بنكهة الرأي أحيانا على الأقل بالتشدد في المقابلات لإثبات وجهات نظر "يمين الوسط" وقت عمله.
وكان بالفعل مختلفا في بي بي سي التي تبدو في الأغلب وكأنها تميل إلى اليسار سياسيا. واختير للقناة اسم "جي بي نيوز" أو أخبار بريطانيا العظمى – فلم تعد هناك امبراطورية!
المهم، انطلقت القناة قبل أسبوع ولم تحدث الضجة التي كانت متوقعة. بل يمكن القول إن أغلب البريطانيين لم يشعروا بها أصلا.
حتى أن خبر انطلاقها لم يجد مكانا سوى في صحيفة اليمين السياسي الرئيسية – الديلي تلغراف – المؤيدة لحزب المحافظين الحاكم حاليا. وتندر البعض بأن التلغراف اهتمت بالخبر لأن أحد كتابها انضم لفريق القناة الجديدة مذيعا أيضا.
حاول القائمون على القناة "افتعال" أزمة علها تلفت الانتباه لهم، فقدم محاموهم شكوى للهيئة المسؤولة عن مراقبة البث والإعلام لضمان حرية المنافسة تتهم بي بي سي وسكاي نيوز وآي تي في بحرمان القناة الجديدة من صور المناسبات الرسمية التي يتشاركون تغطيتها.
تبدو الشكوى بلا أساس قوي على اعتبار ان القناة الجديدة متعاقدة مع وكالة رويترز، لكن رويترز لا تستطيع توفير الصور ومقاطع الفيديو التي يملك الآخرون حقوقها. ورغم أن بي بي سي وآي تي في أعلنتها أنهما لا يمانعان في توفير لمحتوى الخاص بهم باتفاق مع القناة، إلا أن أندرو نيل ومن معه لا يهمهم سوى "لفت الانتباه".
مرت أيام الأسبوع ولم تحقق تلك المسألة المرجو منها، فحاول القائمون على القناة لعب "دور الضحية" بأن الشركات والأعمال تقاطعهم إعلانيا.
وشاركت التلغراف في الحملة فكتبت تنتقد شركات مثل أيكيا وغيرها لأنها لا تعلن على جي بي نيوز.
واتهم كاتب مقال التلغراف الشركات والأعمال بممالأة اليسار وضرب فكرة الرأسمالية من اساسها. مع أن المنطق يقول إن الشركات والأعمال تعلن على المنافذ التي يشاهدها الجمهور، وهذا هو أساس الرأسمالية – استهداف الربح. وإذا كانت القناة الجديدة لا تقدم ما يجذب الجمهور فلن يخاطر الرأسمالي بالإعلان عليها وخسارة نصيبه من السوق.
لا يعني الميلاد الباهت لأخبار بريطانيا العظمى أن السوق في بريطانيا، وبشكل عام، ليس بحاجة لمنافذ إعلام جديدة أو أن المنافسة مقصورة على ما هو موجود. على العكس، فقد اتضح في السنوات الأخيرة أن سوق استهلاك الأخبار والمعلومات والتحليل والرأي به مساحة استيعاب تنافسية كبيرة. وتلك هي التي تغطيها منذ سنوات وسائل التواصل ومنتديات الإنترنت عموما.
لكن الإنترنت وتطبيقات التواصل لا تقدم محتوى عالي القيمة أو يعتد به في قياس المحتوى الصحفي إجمالا. لذلك، ما زالت الصحف والإذاعات وقنوات التلفزيون لها جمهورها، والذي عاد إليها أكثر في فترة وباء كورونا لتفادي التضليل والخرافات على مواقع التواصل.
مشكلة أندرو نيل ومن معه أنهم بالأساس يريدون النيل من حصة بي بي سي وسكاي نيوز من سوق استهلاك الأخبار. وهذه مشكلتهم في أن يحاولوا تقديم محتوى يشبه فوكس نيوز أو يقترب من بوستات مواقع التواصل. وكان التصور أن ذلك سيلبي طلب جيل جديد متأثر بتيارات "ضد المؤسسة" وعلى يمين اليمين. وحتى الآن، لا يبدو أن الوضع كذلك وبانتظار أن يقرر المستثمرون وراء المشروع إن كانوا سيستمرون في تمويله دون مردود (لا مادي ولا سياسي ولا تأثير في الرأي العام) أم سيعطون التجربة فرصة أطول وقتا.