كان الاستشراق في ما مضى دليل الغرب لمعرفة عوامل وأنماط التحكم بالشعوب، وقراءة خرائط القوة والنفوذ، والقيادة والتأثير، والسيطرة واستدامة ظروفها، واليوم تحتاج شعوب المنطقة إلى الاستشراق المضاد، أو الاستغراب إن جاز التعبير، لتحديد مصالحها وصياغة سمعة دولها لدى شعوب الدول الأخرى ورأيها العام، وانطباعات صناع القرار فيها، لتحقيق المصالح والدفاع عن المكتسبات في آن.

لن يكتمل نصاب استحقاقاتنا في المحافل الدولية، ولا مبلغ تأثير قوتنا الناعمة، ولا تفنيد وإبطال ما تُتّهم به بعض مجتمعاتنا، إلا إذا أعددنا وأطلقنا متخصصين في الأنثروبولوجيا السياسية والثقافية ليجوبوا الدول ضمن سفاراتنا لديها.

هذا النوع من الإعداد سيتطلب إلمام الملحق الأنثروبولوجي، وهو إن جازت التسمية يقوم بعمل مواز للملحق الثقافي، بمزايا وعيوب مجتمعه ومثيلاتها في المجتمع الذي سيعمل فيه لاحقا، أولا ليتمكن من الفهم والربط الوجداني والشرح من منطلق محلي لما سيواجه به في المجتمع الآخر، وثانيا للتوطئة المعرفية أمام المجتمع المضيف بعيدا عن الصور النمطية المنقولة عن دولته من تجارب وانطباعات يتيمة أو مغرضة مر بها عابرون ولأسباب مختلفة.

في الدول التي يعد فيها التحشيد سبيلا لبناء سلاسل الانطباعات والسمعة الحكومية، من المجدي دراسة الدوائر الديموغرافية حسب المستوى المعيشي والطبقي، والانتماء السياسي والمميزات الكامنة والظاهرة، والمعاناة الحاصلة والمتوقعة، وإسقاطها تنمويا بالسلب والإيجاب على مجتمعاتنا.

الناتج سيكون ذخائرا علمية جاهزة للرد المفصل والمفحم عند تبادل المشورة أو الاتهامات، فلا يبيعنا تاجر الاستشارات نصيحة من مجتمعه كنا قد استبقناه إلى دراستها، ولا يعيرنا مندوب أو ممثل عن جهة ما بقصور مجتمعي لم نشرع في إصلاحه محليا ودراسته في عقر دار من يتهمنا به.

من أمثلة ذلك أنه في دولنا غالبا ما يرتبط راتب الوظيفة بمسماها ومهامها واشتراطات شاغلها دون النظر إلى خانة الجندر، وهو العامل الذي يجعل من المرأة في دول مجموعة السبع الكبار أجيرا أقل تكلفة من الرجل على مختلف المستويات، ما عدا حالات نادرة مستثناة. لكن الناقد الغربي يبحث باستمرار عن تقصير أو ما يمكن إظهاره كتقصير، وفي المقابل يرصد الأنثروبولوجي الشرقي جانب التقصير المحلي مسبقا ويقدمه محليا بوضوح وتعميم صريح، يكسبه القبول والمصداقية إذا اضطر يوما للرد على محاولة للحط من جهد الدولة والقطاعين الأهلي والمدني في معالجة القصور. مقابل ذلك، يتقبل المجتمع الآخر من الأنثروبولوجي الشرقي انتدابه لديه من أجل تحقيق الشراكة التنموية، التي من أجلها يتم تبادل النقد البناء بصدر رحب، لتبادل علاجات التقصير في المجتمعين، بدل التجريح والافتراء.

تبادل المعرفة حول الطموحات المعيشية، وتطوير جوانب جودة الحياة، والانتفاع المتبادل من ثروات الأرض والعقول والسواعد، وفهم العقائد السائدة، وأساليب الحياة الرائجة، وأنماط الترفيه الثقافي والرياضي والفني، وأسباب تحقق المصالح المصيرية أو خسارتها، كلها أبواب في تقارير دسمة، تبني الشخصية السياسية لدولنا أمام شعوب دول أخرى، وتستبق هروب بعض ساستهم من همومهم وتقصيرهم باتهامنا.