تحير الاقتصاديون ومحللو السوق في الأيام الأخيرة من أرقام التوظيف ومعدلات البطالة في أكبر اقتصاد في العالم.
فقد جاءت أرقام الوظائف التي أضافها الاقتصاد الأميركي في مايو أقل من التوقعات بأكثر من مئة ألف وظيفة، وفي شهر أبريل الذي سبقه لم يضف الاقتصاد سوى اقل من ربع مليون وظيفة بينما كانت الأسواق تتوقع اضافة مليون وظيفة. ورغم تراجع معدلات البطالة قليلا في الولايات المتحدة، إلا أنها تظل قريبة من نسبة ستة في المئة وهو معدل مرتفع.
المثير هو أن الشركات التي عادت للعمل مع فتح الاقتصاد تدريجيا نتيجة الوسع في استخدام لقاحات فيروس كورونا تعلن عن وظائف لكن لا تجد من يقبل عليها. ولا يقتصر هذا الأمر على الولايات المتحدة، بل إن الشركات والأعمال في بريطانيا ودول أخرى تشكو من عدم توفر العاملين لملء الشواغر التي ظهرت مع الخروج التدريجي من أزمة وباء كورونا.
يقدم الاقتصاديون والمعلقون أسبابا مختلفة لعدم إضافة الاقتصادات عمالة بمعدل كبير رغم نسبة البطالة العالية وحاجة الشركات والأعمال لملء وظائف شاغرة. منها طبعا أن الناس ما زالت في حالة عدم يقين بشأن وباء كورونا إضافة إلى أن بعض اجراءات الوقاية من انتشار الفيروس لم ترفع بعد أو رفعت جزئيا مثل فتح المدارس وما شابه. كما أن استمرار حصول العاطلين عن العمل على اعانات حكومية استثنائية بسبب أزمة الوباء يجعل البعض يتردد في قبول وظائف. لكن هذا العامل الأخير سينتهي قريبا مع بدء الحكومات الغاء اجراءات الدعم الاستثنائية ومنها اعانات البطالة.
لكن العامل الأهم فيما يبدو هو أن هناك جيل كامل تقريبا لا يريد العودة إلى سوق العمل إما لأنه اعتاد على العمل من المنزل ولا يريد العودة إلى وظيفة ليست عن بعد أو لأنه "مستغني". ولوحظ من أكثر من مسح واستقصاء مؤخرا أن نصف الشركات التي بها فرص عمل هي من تطرح خيارات تمزج بين العمل عن بعد أو الذهاب لمكان العمل، بينما أكثر من ثلاثة أرباع الباحثين عن عمل يريدون وظيفة بظروف عمل مرنة تسمح لهم بالعمل من المنزل. كما أظهرت البيانات أيضا أن النسبة الأكبر من يتقدمون لشغل الوظائف الخالية هم أشخاص يعملون بالفعل ويرغبون في تغيير الوظيفة أو مكان العمل. وهذا ما يجعل أرقام الداخلين إلى سوق العمل لا ترتفع بما يتناسب مع الوظائف المتاحة ومعدلات البطالة العالية.
أما العامل الأهم فهو أن هناك ملايين يفضلون البقاء خارج القوى العاملة لأنهم يرون أنفسهم في غنى عن الوظيفة، أو العمل بدوام كامل أو حتى نصف دوام. هؤلاء هم من تحولوا إلى تداول العملات المشفرة والأسهم والمشتقات الأخرى في البورصات. وهذا في الواقع هو ما يمكن أن يكون وراء خروج جيل كامل تقريبا من سوق العمل.
صحيح أن الأجيال الشابة، من جيل الألفية وما بعده، دخلت بكثافة في سوق الأسهم والمضاربات سعيا وراء الربح السريع والكبير دون الحاجة للعمل، لكن ذلك التوجه زاد بقوة في عام الوباء. ومن بيانات المسوح والاستطلاعات يتضح أن الجيل الأكبر الذي قارب على سن التقاعد يميل أيضا إلى عدم العودة للعمل بعد أمة وباء كورونا. وأغلب هؤلاء إما "استغنوا" عن الوظيفة راضين بالتقاعد المبكر أو دخلوا أيضا في أسواق العملات المشفرة والأسهم والمشتقات. بعض هؤلاء الخارجين من سوق العمل، شبابا وكبارا في السن، يسعون وراء ثراء سهل دون عمل أما البعض الآخر فيرى أن التداول في المشفرات والأسهم يمكن أن يوفر له دخلا يعادل راتب الوظيفة أو يزيد.
واضح جدا أن أحد التغييرات التي أحدثها الوباء في حياتنا هو نظرتنا للثراء والعمل، مع توجه كثيرين للابتعاد عن الوظيفة سعيا وراء الثراء السهل السريع. لكن كثيرين لا ينتبهون إلى أن تلك المضاربات في المشفرات والأسهم والمشتقات تخسر بشدة كما تكسب ايضا. ومقابل من يربحون هناك من يخسرون بالقدر نفسه. وأحيانا ينتهي الأمر بالبعض لخسارة كل ما يملكون. فالتداول في الأصول عالية المخاطر، رغم اغراءاتها بالربح، أودت بكثيرين إلى الافلاس. وإذا كان المستثمرون الكبار أو الصناديق وغيرها تتحوط حين تخاطر بالتعامل في أصول خطرة فإن المتداولين الأفراد الذين يغامرون بكل مدخراتهم بدون تحوط ربما يجازفون بخسران الثروة وقد لا يكون متاحا عندها عودتهم لسوق العمل بعد تعودهم على عدم العمل.