لمن يبحث في قصة تقسيم فلسطين، سيكتشف رواية تعرُضها وزارة الخارجية الإسرائيلية على موقعها الالكتروني عن ظروف صدور القرار الأممي 181 (29 نوفمبر 1947) الذي، وفق الرواية الإسرائيلية، لم يستجب لطموحات مؤسسي الدولة الإسرائيلية آنذاك، لكنهم قبلوا به بصفته "فرصة تاريخية". بالمقابل، وكما هو معروف، رفض الفلسطينيون والعرب قرار التقسيم ما أدى إلى اندلاع الحرب عام 1948.

وفي رد فعل الطرفين ما يفسّر تناول التاريخ من وجهة النظر الأخلاقية التي انتهجها العرب لرفض تقسيم فلسطين وإقامة دولة إسرائيلية على أرض بلد عربي، ومن وجهة النظر السياسية التي انتهجها الطرف الإسرائيلي للتعامل مع "الظرف التاريخي" المتاح والبناء عليه. وما بين النظرتين، الأخلاقية والسياسية، تتضارب رؤى البشر عموما في مقاربة الصراعات التي تمسّ راهنهم ومستقبلهم وتصنع تاريخهم.

وقد لا يكون الأخلاقي دوماً ناجحا في الدفاع عن المبادئ والمصالح على السواء، كما أن السمّة الأخلاقية قد تكون متواطئة، عن قصد أو جهل، في تمكين السياسة من تحقيق الانتصار. بالمقابل فإن السياسي ليس بالضرورة نقيضا للأخلاق والقيّم، بل يمكن أن يكون أكثر نضجاً ومهارة في الدفاع عن المصالح والمبادئ. على أن الأمر عرضة دائما للشك والتقييم، وليس بالضرورة وفق ثنائية الخسائر والأرباح.

والحال أن منطقتنا تفيض بالأمثلة عن الأخلاقي والسياسي في الخيارات التي واجهت بها بلدان المنطقة التحديات والاستحقاقات المصيرية الكبرى. وفي العجز عن بيان فلسفي مطلق للصالح والطالح، سيكون سهلاً اسباغ الصفة الأخلاقية على هزائم العرب منذ عام 1948 بحيث تبدو "النكسة" الناصرية (يونيو 1967)، مثلاً، إنجازا أخلاقيا محشوا بالمبادئ العليا، فيما يتم التشكيك بالاستراتيجية الساداتية بصفتها ماكيافيلية سياسية (أي غير أخلاقية) استخدمت السبل التي تحترم الواقع والوقائع والمتاح والمسموح لتحرير الأرض واسترداد ما تم احتلاله.

والصراع بين الأخلاقي والسياسي صراع قديم شغل كبار الفلاسفة (أرسطو أقدمهم) والعاملين على قضايا التاريخ وصراع الأمم. وبالتالي فمن السذاجة والتبسيط التحيّز المتعجّل لأحد المفهومين، خصوصا وأنهما متداخلان يتعرض كل منهما للنقد والتقييم وفق الذاتي والموضوعي في محاكمة التاريخ. ويذكر أهل المنطقة الصراع البعثي والناصري كما الصراع القومي والإسلامي كما الصراع التراثي والحداثي في التبشير بالعمران في بلداننا بصفته صراع بين الأخلاق والسياسة.

والواقع أن الخطاب الذي ألقاه الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة في مدينة أريحا (مارس 1965 ) ما زال حتى اليوم مرجعيا في التأسيس للمبارزة الحاصلة بين الأخلاقي والسياسي في مقاربة العرب للقضية الفلسطينية. جوبه اقتراح الرجل القبول بقرار التقسيم وإقامة دولتين على أرض فلسطين برد فعل سلبي شاجب يكاد يكون اجماعيا على نحو أباح للأخلاقي الرومانسي أن يطيح بالسياسي الواقعي. وفيما يتأمل العرب ما تراكم من خسائر جراء عدم فهم "اللحظة التاريخية" المتاحة، ما زلنا حتى اليوم غير متفقين على تقييم علمي موضوعي لما جرى والبناء عليه للاهتداء إلى القرار الأمثل في أمر ما سيجري.

ومن السهل هذه الأيام إلقاء الأحكام على قرارات اتخذها العرب قبل عقود وفق ظروف تلك الفترة وموازين القوى حينها وطبيعة النخب الحاكمة. ورغم ما راكمنا من معرفة حول ما جرى وما استخلصنا من عِبر، فإنه ما زال صعبا ومعقداً هذه الأيام اتخاذ القرار الصائب بناء على ما هو أخلاقي وما هو سياسي. ويعلمنا تاريخ العالم أوجاعا فلسفية في فهم ما إذا كان جوزيف ستالين وأدولف هتلر وماو تسي تونغ، وحتى ونستون تشرشل وهاري ترومان وغيرهم، قد ارتكبوا ما ارتكبوا وفق خلفيات أخلاقية أو سياسية، خصوصا إذا ما قرأنا التاريخ متجردين من القواميس الحالية للصواب والخطأ.

وقد تقودنا الأحداث الأخيرة التي طرأت على الواقعين الإسرائيلي والفلسطيني إلى طرح نفس الأسئلة حول انتقال الفلسطينيين، والعرب من ورائهم، من الهدف "الأخلاقي" بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، إلى الهدف "السياسي" بإقامة دولة فلسطينية أقصى مساحتها 22 بالمئة من مساحة فلسطين التاريخية على أن تكون عاصمتها، بالحد الأقصى، القسم الشرقي من مدينة القدس. وفي تناول الأقصى والأدنى يكمن ذلك التناطح والتنافس بين الأخلاقي والسياسي، وربما بين الممكن والمستحيل.

وفي المضي في هذا التمرين تتقدم واقعة جديدة في إسرائيل حين يوقع منصور عباس رئيس "القائمة العربية الموحدة" اتفاقا مع أحزاب إسرائيلية يمينية لتشكيل حكومة تطيح ببنيامين نتنياهو.

فمن الجهة العربية، فإن منصور عباس إسلامي، شأنه في ذلك شأن الحركة الإسلامية (التي يتزعمها الشيخ رائد صلاح) والتي انشق عنها وشأن حركة حماس (وغيرها) التي قادت حرب غزة الأخيرة، إلا أنه اتخذ قراره الأخير، الذي قوبل باستنكار داخلي وخارجي، وفق نظرته إلى ما هو أخلاقي وما هو سياسي، ووفق عامل الرشاقة (أو البراغماتية) المطلوبة بين النظرتين.
لكن الأدهى، من الجهة الإسرائيلية، أن الأحزاب اليمينية الإسرائيلية المتطرفة التي قبلت دعم كتلة عباس عبّرت عن انهيار لما هو "أخلاقي" في التوق لكيان يهودي (توراتي) نقي في يهوديته، والنزوع إلى ما هو "سياسي" (غير أخلاقي) في التسليم، ربما، باندثار فكرة يهودية الدولة التي يدافع عنها ساسة إسرائيل منذ النشأة ويسوْقون لها في عواصم الدنيا.