لم يعد خافيا على المتابعين أن ما يسمى بالانتخابات الإيرانية هو مهزلة حقيقية وتنافس محموم بين قادة جماعات تنتمي إلى قرون سحيقة على الموقع الثاني في الدولة الإيرانية، وعلى عضوية ما يسمى بمجلس الشورى، الذي تخضع قراراته للنقض والإبطال من قبل (مجلس صيانة الدستور ومجمع تشخيص مصلحة النظام)، اللذين يعيِّنهما الزعيم الأوحد للجماعات المتهادنة، ألا وهو الولي الفقيه!
وفي آخر حلقة من مهازل هذا النظام، أن "مجلس صيانة الدستور"، الذي يعيِّن نصف أعضائه الولي الفقيه، علي خامنئي، والنصف الآخر مرشح الرئاسة، إبراهيم رئيسي، باعتباره رئيسا للسلطة القضائية، قد منع كلا من الرئيس السابق، محمود أحمدي نجاد، ونائب الرئيس الحالي، إسحاق جهانغيري، ورئيس البرلمان السابق، علي لارجاني، والقائد السابق في الحرس الثوري، سعيد محمد، من الترشح للانتخابات الرئاسية، بينما وافق على ترشح إبراهيم رئيسي، مرشح الولي الفقيه، الذي خسر أمام روحاني عام 2017، والمتهم بالتوقيع على إعدام آلاف السجناء السياسيين عام 1988، والمدرج اسمه ضمن المشمولين بالعقوبات الامريكية، ومحسن رضائي، القائد السابق للحرس الثوري، وهي المنظمة المصنفة أمريكيا على أنها منظمة إرهابية، وسعيد جليلي، أمين عام مجلس الأمن القومي، وأبو النصر همتي، محافظ البنك المركزي.
وربما لأول مرة، يحظر هذا المجلس، الخاضع لسلطة الولي الفقيه، ترشُّح سياسيين بارزين من التيار المحافظ، مثل الرئيس السابق أحمدي نجاد، الذي كان المرشح المفضل للولي الفقيه في انتخابات عام 2005 و2009، إذ وقف معه بقوة رغم الاتهامات بالتزوير التي شابت انتخابه لدورة ثانية. كما أن حظر ترشح رئيس البرلمان السابق، علي لاريجاني، لأن ابنته فاطمة تدرس في الولايات المتحدة، حسب جريدة الغارديان، هو الآخر سابقة غريبة وخطيرة في أن النظام الإيراني يسير نحو التشدد والانغلاق اللذين سيؤديان إلى سقوطه في نهاية المطاف.
ويبتكر مجلس صيانة الدستور الأسباب كي يحظر المرشحين ذوي التوجهات الإصلاحية والمحتمل فوزهم، فهناك معايير "التقوى والتعليم والعمر والصحة والإيمان بنظام الجمهورية الإسلامية" وغيرها. والغريب أن المجلس كان قد أقر ترشح أحمدي نجاد مرتين في السابق، ما يعني أن كل الشروط المطلوبة قد توفرت فيه. لكن الحقيقة هي أن نجاد احتج في آخر عهده على تدخل خامنئي في تفاصيل عمله، حتى أنه مُنِع من زيارة سجن إيفين ومقابلة أحد مساعديه، علي جوانفكر، الذي سُجِن "لتطاوله على القادة الإيرانيين". يبدو أن نجاد قد غيَّر رأيه في النظام كليا، وهذا دليل على أن العطب قد وصل إلى قلب النظام الذي بدأ يتآكل من الداخل، ولم يعد حتى المتحمسون له سابقا يؤيدونه فعليا.
وكان أحمدي نجاد قد هدد بأنه سيدعو أتباعه لمقاطعة الانتخابات، إن لم يقِر مجلس صيانة الدستور ترشُّحَه، لكن مستشاره السابق والنائب الحالي في البرلمان، مرتضى أغا طهراني، وهو من الملالي المتطرفين، قد حذر نجاد وباقي المرشحين المحظورين، من المقاطعة وهددهم بأن "النظام سوف ينفد صبره معهم ويُقْدِم على اعتقالهم"! يا لها من ديمقراطية عجيبة، لا تكتفي بحظر ترشح السياسيين البارزين في الانتخابات، بل تهدد باعتقالهم إن قاطعوها! كما دعا طهراني المرشح المحافظ الآخر، سعيد جليلي، إلى الانسحاب من السباق "لأن هناك من هو أكفأ منه" وهو إبراهيم رئيسي، مستشهدا بحديث نبوي فحواه أنه لا يجوز التنافس بين الكفوء والأقل كفاءة! وحسب هذا الرأي، فإن الانتخابات تعتبر باطلة لأنه لا يمكن أن يكون المرشحون كلهم على مستوى واحد من الكفاءة، فالشعب وحده يقرر من هو الأصلح في النظام الديمقراطي الحقيقي.
لم يكن متوقعا أن يفوز نجاد في الانتخابات، فالشعب الإيراني صوت ضده عام 2009، لكن إرادة الولي الفقيه قضت بأن يفوز، فاستمر رغم اعتراض المعترضين وتصويت أكثر الناخبين ضده. لكن الهدف من منعه أن وجوده سوف يشتت أصوات المحافظين، التي يُراد لها أن تذهب للمرشح الذي يفضله الولي الفقيه! وكأن خامنئي يقول للإيرانيين صراحة أن الخيارات المتاحة أمامكم هي إما رئيسي أو رئيسي! ورئيسي هذا يشبه خامنئي إلى حد التطابق، حتى أنه اختاره فعليا خليفة له في منصب "الولي الفقيه"، ليتكرر بذلك سيناريو خلافته للخميني!
نائب الرئيس المحظور، اسحق جهانغيري، كان ساخطا من قرار حظره، وقال إن حظر المرشحين المؤهلين "تهديد خطير للمشاركة الشعبية في الانتخابات ولأسس المنافسة العادلة بين المتنافسين السياسيين، خصوصا الإصلاحيين منهم". كما انتقد الرئيس روحاني قرار الحظر قائلا إن "تضييق قائمة المرشحين ليس في صالح أحد"، بينما اعتبر أزار منصوري، من الجبهة الإصلاحية، أن ما قام به مجلس صيانة الدستور "مخالف للقانون وينتهك حق الشعب في التعبير عن إرادته الحرة في الانتخابات".
ويقول علي صوفي، من التيار الإصلاحي، إن "اللعبة لم تكتمل بعد، وبإمكان الإصلاحيين أن يصوتوا للمرشح التكنوقراط، محافظ البنك المركزي، أبو النصر همَّتي". بينما انتقد عضو مجلس صيانة الدستور، آمُلي لاريجاني، وهو أخو المرشح علي لاريجاني، قرار المجلس واصفا إياه بأنه "لا يمكن الدفاع عنه" ملقيا باللائمة على "تدخل جهاز المخابرات في عملية اختيار المرشحين". كما نُقل عن إبراهيم رئيسي "انتقاده" قرار الحظر، وعزمه على العمل على إقناع المجلس بإعادة النظر فيه.
يبدو أن النظام الإيراني وصل إلى نهاية الطريق. فإن كان سابقا يقدِّم مرشحين يمتلكون قدرا من الصدقية والتميز، مثل خاتمي وروحاني، أصبح الآن يلجأ إلى فرض مرشحين متشددين لا يتمتعون بالقدر الكافي من الشعبية والصدقية، ويحاول "هندسة" انتخابهم! الخيارات المتاحة للشعب الإيراني الآن هي إما المقاطعة، أو التصويت لإبراهيم رئيسي أو محسن رضائي أو سعيد جليلي، وكلهم محافظون متشددون. هناك مرشحون آخرون أجاز المجلس ترشحهم، ولكن لا يُتوَقع لهم النجاح، خصوصا وأن بعضهم رشح مرات عديدة وفشل. من المحتمل أن تضغط المؤسسة الدينية بطريقة أو بأخرى على رضائي أو جليلي أو كليهما لسحب ترشحهما، كي تخلو الساحة لرئيسي! وقالت صحيفة "اعتماد" الإصلاحية إن أعضاء مجلس صيانة الدستور "يعيشون في عالم منفصل تماما عن الشعب الإيراني".
يقول الصحفي الإيراني في القسم الفارسي لبي بي سي، كسرى ناجي، في تحليل نشرته المؤسسة على موقعها إن رئيسي أكثر المرشحين تطرفا على الإطلاق، وهو "المرشح الوحيد الذي يستطيع المتشددون الاتفاق عليه من أجل تجنب انقسام أصوات المحافظين بين مرشحين محافظين آخرين". ويضيف ناجي "أن معظم المرشحين الذين سُمِح لهم بالترشح كانوا قد جربوا حظهم في الانتخابات السابقة وفشلوا، وبعضهم انسحب من السباق قبل الانتخابات، بينما حصل البعض الآخر على أصوات قليلة".
وتوقعت وكالة (فارس) التي يدعمها الحرس الثوري "فوزا ساحقا" لرئيسي وقالت إنه سينال 72% من الأصوات، مستشهدة باستطلاع "موثوق" لتوجهات الناخبين، بينما توقعت الوكالة أن تكون نسبة الإقبال على التصويت في الانتخابات 53%!
رئيسي، الذي يبدو أنه سيخلف روحاني في منصب الرئيس، الذي لم تعد له أهمية تذكر، لن يكون رئيسا مستقلا في قراراته، بل تابع لخامنئي وسائر في ركبه، كما كان طوال وجوده في النظام، فهو منفذ للأوامر، وكان هذا ديدنه حتى عندما وقّع على إعدام السجناء السياسيين عام 1988! كما سيفرض المزيد من القيود "الإسلامية" على حرية المواطنين، وهذا ما اتهمه به الرئيس روحاني في الانتخابات السابقة.
ولكن ما الذي يستطيع رئيسي، المشمول شخصيا بالعقوبات الامريكية بسبب دوره في إعدام السجناء السياسيين، أن يفعله لإنقاذ إيران من مأزقها الحالي، الذي وضعها فيه الولي الفقيه عبر تشدده وقراءاته الخاطئة للسياسة الدولية وفهمه الغرائبي للمصلحة الإيرانية؟
أراد خامنئي من خلال فرض رئيسي رئيسا، في مخالفةٍ للدستور والأعراف الانتخابية، ومخاطرةٍ في إغضاب الشعب، أن يبقى متحكما بسياسة إيران، داخليا وخارجيا، رغم أخطائه المتكررة وتقدمه في السن. هذا التحكم، والفردية والتعصب هي التي قادت إيران إلى حافة الهاوية، وجلبت عليها العقوبات، وجعلت دول المنطقة تتخوف منها وتتحالف مع المجتمع الدولي ودول أخرى من أجل الخلاص من تهديداتها والأخطار التي تشكلها على أمن المنطقة واستقرارها.
سياسات خامنئي هي التي جعلت من إيران بلدا محاصَرا وفقيرا، رغم إمكانياتها البشرية والاقتصادية الكبيرة. وهي التي دفعت أذربيجان الشيعية إلى مناهضتها. وهي التي أبعدت شيعة العراق عنها وجعلتهم ينتفضون ضد ساستهم التابعين لها، الذين أرادوا ربط العراق بإيران قسرا، واستنساخ نظامها الفاشل في العراق، رغم التمايز الديموغرافي والثقافي والحضاري والتأريخي الهائل بين العراق وإيران.
وهي ذات السياسات التي دفعت اللبنانيين للانتفاض على الوضع السياسي والاقتصادي المزري في بلدهم الذي ولَّده تحكم أتباع الولي الفقيه به، وهي التي أوصلت اليمن إلى وضع بائس يعاني فيه شعبه من المرض والجوع والفوضى. فهل هذا حقا ما يريده الشعب الإيراني لنفسه في المرحلة المقبلة؟ وهل هذه السياسة هي حقا سياسة إسلامية؟ هل يقر الإسلام زعزعة استقرار الدول الإسلامية ودعم الإرهاب وإشاعة الفوضى وشن الحروب والاعتداء على السفارات وقتل المعارضين والمخالفين وإنشاء المليشيات في البلدان الأخرى؟ بالتأكيد لا. الإسلام الحقيقي بعيد كل البعد عن هذه السياسات الطائشة وغير المسؤولة، التي تشوّه مبادئ الدين السلمية.
الانتخابات الإيرانية أصبحت مزحة، فلا أحد يكترث لها أو يثق بنتائجها، لا الشعب الإيراني، وهو المعني الأول بها، ولا المجتمع الدولي، والأسوأ من هذا أنها تقود إلى "انتخاب" أشخاص متشددين ومنبوذين شعبيا ودوليا ولا يتمتعون بالكفاءة التي تؤهلهم للقيادة. قد تكون الانتخابات الإيرانية المقبلة آخر وأسوأ مهزلة في مسلسل المهازل الجاري في هذا البلد منذ 42 عاما، والذي تحول إلى مشكلة لدول المنطقة والعالم بسبب سياسات قادته العشوائية ومطامعهم غير المشروعة، التي تتجاهل القوانين والمواثيق الدولية، ومبادئ وأسس المصالح الاقتصادية، والنظام الذي تسير عليه العلاقات الدولية.