5 ـ متن القوانين
1
الحضور في واقع برّي، طبيعيّ، أغنَى إنسان الصحراء عن الحاجة لسنّ القوانين الوضعيّة لأسبابٍ أهمّها: وضوح المفاهيم، وبراءة الواقع، وبساطة العلاقات الإنسانية، والخضوع لمنطق الأعراف السائدة، المستعارة أساساً من ناموس تقاليد امتحنتها تجربة تواصلت أجيالاً.
أمّا في حال واقع الإنسان العمرانيّ، فسنّ القوانين الوضعيّة أضحى استجابة لضرورة أفرزها ثراء العلاقة، الخاضعة لصفقة أملاها أفيون عبادة الملكيّة، ممّا خلق مناخاً مزموماً لا يعود فيه الإنسان أخاً لأخيه الإنسان، ولكنه انقلب غنيمةً من نصيب أخيه الإنسان، ممّا أبطل مفعول القوانين الألوهيّة، بل وشلّ سلطة القوانين الطبيعيّة، ليجد الإنسان نفسه محاصراً بطوقٍ مُحكمٍ من أعداء، باحثاً عن أسلحةٍ للدفاع عن النفس مهما تحصّن وراء متاريس حُسن النيّة، ومهما تشبّث في مسلكه بالوصيّة التقليدية القائلة بوجوب أن يحترس في سعيه، لئلّا يدوس على حقوق الآخر دون أن يدري، كما عليه أن يلزم الحذر في سعيه لئلّا يُداس بأقدام الأغيار. وهو ما يعني أن الجور في العلاقة قدَرٌ، فإن لم تظلم، فيقيناً أنّك لن تنجو من ظلمٍ. فكيف السبيل للخلاص؟
الواقع أن سنّ القوانين أيضاً مغامرة خطرة، لأنها لم تشفِ غليلٍ أحد يوماً. لماذا؟
السبب في تشعّب شبكة العلاقات، وتضارب المنافع، الناتجة عن طبيعة نظامٍ اقتصادي ملوّثٍ بالآثام، الناجمة أيضاً عن احتراف الغشّ، الملازم لأيّة صفقة دنيويّة، ممّا يحوّل حياة العشّ العمراني إلى بؤرة تتنازل في ساحتها الافاعي السامّة، فلا تجدي الحلول المختطّة على قراطيس، مشفوعةً بصيغة القوانين، لأن القوانين ليست تنزيلاً ملزماً، كما في واقع الإنسان الطبيعي، ولكنها هبة مجانية من مزاجٍ يحترف المخططات النظريّة، التي لا تلبث أن تُهزم بسطوة حرب الخصومات الحرفية، لتُستَبدَل بقوانين أخرى، جديدة، يائسة لاستيعاب ثراء النفس البشريّة، الموسوسة دوماً بالشكوك، ولا تقبل بغير المحال منذ أقدم العصور، منذ انقسام ظهر القبيلة البشرية، فآثر فريق أن يتخلّى عن الحريّة، ويستسلم لإغواء المقام في المكان.
فكلّ القوانين سيّئة في واقع المقام في المكان. وكل سلطة في أرض العمران ظالمة، لأنها أخفقت في حلّ عَصَب مشاكل الإنسان، وهي العدالة!
لقد أعيت الحيلة حكيماً في مقام صولون كي يضع شرائع عادلة لأمّة الإغريق، وهو العليم بحقيقة الإنسان الذي لا يقنع بشيء، ولا يرتضي بشيء، ولا يقبل حتى بالفردوس، فاشترط لكي يجد مخرجاً من المأزق ألّا يقوم اليونانيّون على استبدال القوانين المزمعة لأمدٍ يستغرق عشرة أعوام. ولم يكفه وعد القوم، ولكنه آثر أن يفرّ من اليونان طوال هذا الأمد، لئلّا يُجبَر على تغيير متونٍ يدري جيداً أنها لن تنال موافقة السواد الأعظم، بل ولن تنال رضى أحد على الإطلاق، لأنها في الواقع ليست قناعة نابعة من روح أناسٍ متصالحين مع أنفسهم لعلّة تصالحهم مع الطبيعة، كما أهل الرحيل، ولكنها مجرد قيود، مجرد أغلال، يرتضون أن يكبّلوا بها أنفسهم لكي يحتملوا الحضور في عشّ الأفاعي السيّء الصيت. ففضّل الهجرة إلى ربوع مزر، ربوع مصر المزار، الذي مكّنته حكمة كهنته أن يوفّق بين الطبيعة والإنسان، فاستطاع أن يحقق معجزة أن يحيا الناس بالقوانين النابعة من طبعٍ، النابعة من طبيعةٍ مفتوحةٍ على فضاءٍ صحراويّ، بيئيّ، يطوّقها من كل صوب، فتؤمّها أفواج الراحلين الإلهيّيين، الذين استنزل في حقّهم القدّيس بولس شهادة الملائكة عندما أمر: "استضيفوا الغرباء، لأنّ أناساً كثيرين استضافوا في الغرباء ملائكةً وهم لا يعلمون!".
فرّ إمام الحكماء السبعة ليقينه بعدم جدوى قوانينه في تحقيق لُقية عصيّة كالعدالة، مستعيداً وصيّة حكيم السكتيّين أناخارسيس، الذي زاره فوجده منكبّاً على صياغة شرائعه الشقيّة، ليسخر قائلاً: "ألا تدري أن سَنّ القوانين لمعشر البشر باطل أباطيل؟ لأن القوانين كبيوت العنكبوت، الأقوياء من أشراكها يفلتون، والضعفاء وحدهم يقعون!". فعقم القوانين الوضعيّة نتيجة طبيعية لهويّتها الوضعيّة. أي خلوّها من روح الله، خلوّها من روح الروح. يكفي أن تكون وضعيّة، لكي تنتحل ماهيّة الوضاعة. وليس للوضاعة أن تعبّر عن حقيقة قدسيّة كالعدالة؛ لأن العدالة ستبقى عملة مزوّرة ما ظلّت تتباهى بوضعيّتها، التي لن تكون في منطق اللغة سوى: وضاعتها. فالعدالة احتيالٌ فاشل من جناب النحاة، لكي لا يتطاولوا على المبدأ المنزّه عن الخطأ، فيسمّوا الأسماء بأسمائها، في ملفوظة مرجعيّة رهيبة هي: الحقّ!
هذا يعني أن كل ما ليس إحقاقاً للحقّ، هو في الواقع باطل أباطيل، مهما تشدّقَ بصنوف الأسماء! وهو ما يعني غياب الأمل في تنزيل ما هو حقٌّ من عليائه في فراديس البعد المفقود، ليحلّ ضيفاً في رحاب أرضٍ صارت بنزيف العدالة حضيضاً حقيقيّاً، مما يُضعف فرصة الفوز بالعدالة. فكل حُكمٍ لن يكون عدلاً ما لم يكن حكم حقٍّ، ما لم يكن حُكماً منزّلاً بمشيئة خالق الخلق. وليس لنا إلّا أن نقنع بعبث سَنّ القوانين طلباً لعدالة، عدالة لا وجود لها بالمنطق، ولن تكون لها فرصة وجود أن توجد، لأن جرثومة الخطيئة التي تسري في دم السلف، واعتمدناها، في واقع العشّ العمرانيّ، دليل وجودٍ، يبصم نشاطنا كلّه بالإثم، ستبقى لعنةً تُفسد علينا صلواتنا، ما لم نكفّر عن نوايانا، ظنّاً منّا أننا نستطيع أن نغيّر ما بالعالم، دون أن نكلّف أنفسنا عناء تغيير ما بأنفسنا، ونغتنم خلاصاً من جور نظامنا الأرضيّ، ما لم نحرر أنفسنا من جور النظام الذي يسكننا.
فالنظام المهيمن على الأرض، بطبيعته، نظام الباطل، في مقابل الاحتكام إلى الروح، حيث يُهيمن نظام الباطن!
2
في برّ الصحراء تسود شريعة أخرى تماماً. في شرع القبيلة المهاجرة يهيمن الناموس التشريعي، المستعار من جناب الطبيعة الأمّ، الذي ما زالت أمّة الملثّمين تتغنّى به في الوصيّة القائلة: باعدوا بين بيوتكم، قاربوا بين قلوبكم!، كأنّ أهل الفطرة الأولى، الذين لم يخيّبوا ظنّ الواقع البيئي بهم، أبوا إلّا أن يجعلوا تقارب القلوب عملاً رهيناً بالتباعد بين البيوت، ليقينهم بأن الإنسان لم يتحوّل في حضرة أخيه الإنسان ذئباً إلّا بسبب احترافه الحضور الحرفيّ في حضرة أخيه الإنسان. فالعلاقة، في بُعدها الحرفيّ، ورم الحبّ. الحضور في العلاقة المباشرة هو الآفة التي تفترس الرحمة، ولا تهنأ حتى تستزرع جرثومة العداوة؛ لأن في التلاحم يكمن مصرع قدس أقداس، لا سبيل لإنسان الواقع البرّيّ للشفاء منه، وهو: الحرية.
فإنسان البراري لا يفرّ من أخيه الأنسان من باب الخوف فقط، ولكن شفقةً عليه أيضاً، وهو العليم بأنّهما سيتبادلان اغتراباً قاسياً لم يكن ليغدو في تجربتهما قدراً إلّا بسبب عمق هذا الاغتراب. ولهذا السبب يحتفي بيوم اللقاء كعيدٍ حقيقي. يحتفي بالحضور العابر ما أن تتقاطع طرقهما، لتكون المصادفة صفقة قدسيّة مبرمة بحرف عهدٍ هو الحريّة. ولذا تغدو فرصة جديرة بالطقوس، بالمبالغة في ممارسة الطقوس، سيّما بهيمنة شبح الوداع على المناسبة. طغيان شبح الفراق يهب اللقاء عمقاً تراجيديّاً فادحاً، ليقينٍ غيبيّ باستحالة أن يتكرر! فوسام الفناء يكتم أنفاس القطبين، ليحوّل الاجتماع إلى بلاغ. إلى تصريحٍ بنعي. فإنسان البريّة، المعتنق لدين الطبيعة، وبالتالي لدين الحرية، وحده يدري أن حضوره في رحاب الفرار فناء، صنيعة فناء، فناء في صيغةٍ صغرى، تنتظر فناءً في صيغته الكبرى. فناءٌ وقتيّ، سيستوي في أيّة لحظة في فناء أبديّ. فأي حاجة لقوانين في واقع الحريّة، في واقع الفناء؟
في واقعٍ يتنفّس برئة الفناء لا حاجة، في الواقع، حتّى لما اعتدنا أن نسمّيه اعرافاً. لا حاجة حتّى لما نسمّيه ناموساً، لأن وصايا الأسلاف، في سيرة قبيلة درويش الأزل هابيل، تكفي لأن تكون درساً، تكفي لأن تكون قياساً.
3
يحقّ لنا أن نتساءل: لماذا صار الرحيل رديفاً للمنيّة، سواء في حجج الميثولوجيا، أو في منطق علم النفس؟
صار الرحيل حجّةً في سفر الموت استجابةً لروح العقليّة البدئيّة، المخفيّة في ذخيرة كلمة "سفر"، الدالّة في منطوق الأصل، على "الترياق"، كما تجود بها علينا لغة البدايات. ولكن.. ترياقٌ للاستشفاء من ماذا؟
السفر ترياق للاستشفاء من داءٍ، السفر ترياقٌ للاستشفاء من وباءٍ لن يكون، بالطبع، سوى الوجود!
ألم نسوّق الوجود كحضورٍ جبريّ في واقعٍ هو بكل المقاييس ورطة؟ ألم نتغنَّ في أدبيّاتنا، منذ مستهل العهد، بالوجود كشَرَك؟ ألم يلقّنّا اللّاهوت حقيقة الوجود بوصفه شِرْكَاً (بكسر الشين)، أي تجديفاً، مجبولاً بإثمٍ؛ إثمٌ لا شفاء منه إلّا بالفناء؟
السفر، إذاً، وصفة سحريّة، ترياقٌ لمداواة داء؛ داءٌ الوجود فيه بطل، قطب، حجّة، لن نستجهن بعدها أن تتحفنا العقليّة الأهليّة، الوفيّة لناموس التقليد، بالوصيّة التي لا تتردد في أن تجود على كل مَن فارق الحياة بعبارة: "استشفى"، أو "تعافَى"، تعبيراً حرفيّاً، لا مجازيّاً، عن حقيقة الموت كشفاء من وجودٍ هو، في مفهوم الأرومة، داءٌ! وهو ما عبّر عنه سقراط عندما تجرّع السمّ، تنفيذاً لحكم المحفل القائم على أمر أهل أثينا، فلا يفوته أن يرجو تلامذته بألّا ينسوا نحر الديك الأبيض، على عادة اليونانيّين، احتفاءً بالنجاة من مرضٍ، مترجماً بهذه الأمثولة، حقيقة الوجود كمرضٍ لا شفاء منه إلّا بالموت!
من هنا نفهم كم الارتحال تجربة اعتناق لدين الشفاء، لدين التعافي من مرضٍ عضال، من وجودٍ نحسبه وجوداً، ولكنه، في حقيقته، عدم وجود، لأنه المفوّض بالنطق بحُكمِ الأبديّة بحكم الفناء. والمرتحلون وحدهم أوتوا شجاعة الاعتراف به كاغتراب، الاعتراف بحضورهم في الوجود كباطل أباطيل، والحجّة الوحيدة للبرهنة بهذا الاعتراف هي الاستجارة بتلابيبه، مرافقته، السير في ركابه، أي احتراف ملاحقته في فراره، لا في رحاب المكان وحسب، ولكن في بُعْد الزمان أيضاً.
فالمهاجر الذي أدمن الضياع وحده لا يعود في حاجة لإضاعة الوقت في وضع القوانين؛ لأن المهلة الوهمية، التي يراها أهل الاستقرار أعماراً، هي في منطقه غير معنية بالعلاقة، ولا شأن لها بالواقع، أو ما نسمّيه بمنطق الاستقرار، واقعاً؛ لأنها تخضع لقانون آخر هو البُعد المفقود، فلا يضيره أن يكتفي باستعارة أحكامه من واقع الملاذ الوحيد الذي لا يملك لإنكاره سبيلاً: الطبيعة!
العُرف، المسكون بالقيم الأخلاقية، متٌن قانوني، مستعار من هذه الأُمّ القدسيّة، ولهذا السبب هو متنٌ روحيّ، وأن يكون متناً روحيّاً، يعني أنه متن ألوهيّ.
متنٌ ينزّه حامله عن واقع الحضيض، ويضمن له الحضور في منزلة واقع ميثولوجي، ليحقّق ماهيّة الطّيف!