يوم الأربعاء الماضي خسرت سوق العملات المشفرة، مثل بيتكوين وأمثالها، ما يقارب نصف تريليون دولار في 24 ساعة.
وهوى سعر بيتكوين إلى نصف قيمته الشهر الماضي حين اقترب من ثلاثين ألف دولار. واحتلت العناوين في منافذ الأخبار الاقتصادية والمالية حول العالم تعليقات وتحليلات من قبيل "فقاعة وانفجرت" إلى آخر ما يلفت الانتباه ويثير المتلقي.
لكن ذلك لا يعني أن هناك مبالغة في تصوير ما حدث، فقد خسر بعض المستثمرين في بيتكوين وغيرها من تلك العملات الافتراضية جل ما يملكون من ثروة.
إنما المثير حقا أن هذا الانهيار في قيمة تلك الأصول الرقمية جاء تعبيرا عن هشاشتها واستعدادها للاضطراب والتذبذب على أهون سبب.
فكل ما حدث أن البنك المركزي الصيني أعاد التأكيد على إجراء سابق له منذ سنوات حذر فيه المؤسسات المالية في البلاد من استخدام العملات المشفرة في معاملات الدفع والتحويل. ورغم أن الصين شددت الإجراءات بالنسبة لتلك المشفرات منذ 2017، إلا أن مجرد بوست على موقع وي تشات الصيني هوى بسعر تلك العملات الافتراضية بأعلى نسبة متوقعة في يوم واحد.
صحيح أن حساسية تلك العملات، ليس فقط بيتكوين وإنما غيرها مثل إكس آر بي وإيثيريوم ودوجيكيون وما شابه، للإنترنت مفهومة باعتبارها أصول رقمية ليست سوى شفرات كمبيوتر معقدة على شبكة بلوكتشين المؤمنة. أي أنها أصل "إنترنتي" تماما، وبالتالي فحساسيتها عالية لكل ما يتعلق بالإنترنت.
لذا تجد تغريدات من شخص مثل الملياردير الأميركي إيلون ماسك رئيس شركة تسلا للسيارات الكهربائية ترفع سعر تلك المشفرات أو تهوي به في دقائق.
لكن الأهم، أن بيتكوين وأمثالها أصبحت المستهدف الاستثماري المفضل لملايين ممن دخلوا أسواق الأسهم والمشتقات الاستثمارية في السنوات الأخيرة ممن يسمون بالمستثمرين الأفراد. وأغلب هؤلاء من الشباب الذي يستخدم تطبيقات رقمية للتداول سعيا وراء الربح الكبير والسريع ولديهم شهية علية للمخاطر.
بالطبع، لا يقتصر استثمار هؤلاء على العملات المشفرة وإنما كان لهم دور أيضا فالارتفاع الكبير في مؤشرات أسواق الأسهم أيضا.
كل ذلك النشاط من قبل الداخلين الجدد في الأسواق يزيد الطلب على المشتقات الاستثمارية، ويرفع من قيمة تلك الأوراق المالية بشكل يشهد مبالغة أحيانا تقترب من الغليان. وهكذا، ينتفخ النظام المالي العالمي بتريليونات وهمية ليست سوى أرقام على شاشات لا تعكس أصولا حقيقية في الواقع ولا حتى تقديرات نمو اقتصاد حقيقي.
سبق وأن عانى النظام المالي العالمي من مشاكل مماثلة، لكن على مستويات أقل مما هو حاصل الآن. فآخر أزمة مالية عالمية عام 2008 كانت نتيجة المغالاة في مشتقات توريق القروض العقارية، ومع أول إشارة من السوق العقاري على الهبوط انفجرت الفقاعة ودخل النظام كله في أزمة لم يكد يخرج منها حتى واجه العالم الأزمة التي سببها وباء فيروس كورونا العام الماضي. وكان من أهم ملامحها أن الانكماش في الاقتصاد الحقيقي قابله ارتفاع كبير في قيمة الأصول الورقية من أسهم ومشتقات استثمارية.
ربما لا تمثل العملات المشفرة نسبة كبيرة من حجم القطاع المالي العالمي، لكنها مشتق استثماري جديد تماما أكثر جذبا للأجيال الجديدة ومعبر عن مستقبل افتراضي مبني على الإنترنت. ورغم الاضطرابات والتقلبات لا يتوقع أن تختفي تلك العملات المشفرة، وإنما الأرجح أنها ستزداد عددا ونصيبا من السوق. ويعني ذلك بالتالي زيادة في حجم التريليونات الافتراضية، إذا جاز التعبير.
تعد الميزة الأساسية للعملات المشفرة هي أنها "خارج النظام" ولا تخضع لأي لوائح أو قواعد، وبالتالي فلا أي ضمان سوى أمان شبكة بلوكتشين.
وبما أنها ليست عملات بمعنى النقد وإنما أصول تداول رقمية، فإن أي تقنين لها مرتبط بقواعد تنظيم التكنولوجيا المالية أكثر منه بقواع السوق والأوراق المالية. لهذا تجد السلطات المالية والنقدية حول العالم نفسها في مأزق حين تخطط لتنظيم تلك المشتقات الافتراضية.
قد يكون الحل في التوسع في طرح العملات الرقمية السيادية، مثلما توشك الصين أن تفعل بطرح اليوان الرقمي ويعمل البنك المركزي الأوروبي على إصدار اليورو الرقمي وهكذا.
فالعملات الوطنية الرقمية ستلبي الطلب على زيادة المعاملات الإلكترونية وستبقى مكملة للعملات الوطنية النقدية العادية، أي مضمونة من البنوك المركزية وتعكس اقتصاد البلد الصادرة منه.
ولأن بقية العملات المشفرة عدا بيتكوين لا تستخدم في المعاملات، أي الدفع أو التحويل إلى نقد، فسيكون من السهل أن تزيح العملات الرقمية الوطنية تلك العملات المشفرة إلى مكانها المنطقي "مشتقات استثمارية رقمية".
حينئذ سيسهل على سلطات الأسواق تنظيمها وسن القواعد للتداول فيها. وقد يسحب ذلك قدرا من التريليونات الافتراضية من السوق العالمية بما يقلل مخاطر انفجار فقاعة تالية نتيجة المغالاة في قيمة الأصول.