إذا سلمنا جدلا أن الدبلوماسية فن وعلم لمن يتقلد مسؤوليتها ليساهم في رفاهية وطنه وازدهاره من خلال الصلاحيات الممنوحة له بموجب وظيفته، لفهمنا أسباب عزلة لبنان التي أضيفت إلى الخراب وضياع الأمن الاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه اللبنانيون.

صحيح أن العزلة والخراب لم يتسبب بهما وزير الخارجية اللبنانية شربل وهبه فجأة ومن دون سابق إنذار، وبزلة لسان على الهواء، لكن الصحيح أيضا أن ما تفوه به معاليه ليس غير متوقع. ربما لأنه نطق بما يضمر. فهو ربيب مدرسة لا تزال تحقد على من بذل الجهود لإخراج لبنان من الحرب الأهلية عبر اتفاق الوفاق الوطني في الطائف.. ما أدى إلى إخراج قائد مسيرته رئيس الجمهورية الحالي ميشال عون، الذي كان في حينه قائدا للجيش ورئيس حكومة انتقالية من قصر الرئاسة في بعبدا، حيث اعتصم رفضاً لإنهاء الحرب وإجراء انتخابات تقود غيره إلى القصر وتخرجه منه.

والصحيح أيضاً، أن معاليه ينتمي إلى فريق سياسي تحالف مع المحور الإيراني وأذرعه ومشروعه، ويلتزم به حتى النفس الأخير للكيان والسيادة والاقتصاد في لبنان. وفقط للوصول إلى السلطة.. منقلبا على كل مواقفه السابقة والمخوِّنة لمن تحالف معهم.

وليس تشبيه معاليه الدول الخليجية بـ"أهل البدو" بضائرها. فالتشبيه هنا مرتبط بالقياس لنتبين مفاعيله.

وبموجب هذا القياس، ليس مستغرباً أن "يفقد" رأس الدبلوماسية في حكومة مستقيلة رباطة جأشه لما اعتبره إهانة لرئيسه، فينطق عن هواه الباطني، كاشفا نظرته إلى المملكة العربية السعودية وشقيقاتها من دول "أهل البدو" التي رعت إخراج لبنان من حربه الأهلية، وساهمت مراراً وتكراراً في إعادة بناء ما يتهدم بفعل جولات عنف واعتداءات إسرائيلية لتُكافأ بالنكران والدسائس والاعتداءات الأمنية والاجتماعية والإعلامية، أيضاً مرارا وتكرارا، التزاما من فريق بعينه بتنفيذ أغراض أجندة المحور الذي ينتمي إليه، وذلك بعد مصادرته سيادة لبنان.

ولا ننسى أن ما قاله وهبه هو استكمال لمواقف جبران باسيل، وزير الخارجية الأسبق والرئيس بالوراثة لـ"التيار الوطني الحر" الذي أسسه والد زوجته ميشال عون والطامح إلى رئاسة الجمهورية، ولوكان الثمن إحراق لبنان بأكمله. فقد كان باسيل يتمنَّع عن إدانة أي قصف للملكة في اجتماعات وزراء الخارجية العرب، ويسجل تحفظه على أي بيان في الجامعة ضد إيران من "أهل البدو".

من هنا، ما قاله وهبه ليس زلة لسان بل هو التزام بخط مستمر رسمه رأس المحور الذي شل لبنان لسنتين ونيف حتى يأتي بميشال عون رئيسا للجمهورية، لأن أجندة المحور الإيراني تتطلب مثل هذه السياسة وهذه "الدبلوماسية" ليبقى لبنان ورقة من أوراق التفاوض التي تستطيع إيران اللعب فيها على حساب لبنان واللبنانيين.

فالتشبيه الذي حاول وهبه التبرؤ منه، كما حاول بيان رئيس الجمهورية التنصل من مسؤوليته عنه، يؤكد أن الدبلوماسية التي يفترض بمن يتولاها وضع مصلحة بلاده العليا في أعلى سُلَّم أولويات مهمته، غائبة تماما، لأن لا لزوم لها في قاموسه.

ذلك أن المهارات التي تتوفر لدى معاليه، لا تتعلق بالقضايا الاستراتيجية أو المحورية، وإنما ترتبط ارتباطا وثيقا بتسديد الفواتير التي سلَّفها رأس المحور للفريق السياسي الذي أتى به وزيرا في ساعة غفلة بمعزل عن كفاءته وقدراته ولكن لمكافأته على ولائه لزعيمه.

فالدفاع عن رئيس الجمهورية بالشكل الذي اعتمده معاليه يصح فيه المثل القائل: "الولد السيء الخلق يجلب الشتيمة لأهله".

فكيف إذا كان الأهل يعجزون عن تأمين الحد الأدنى من متطلبات العيش الإنساني للشعب اللبناني. ففي القياس والتشبيه، تسقط بالنقاط الغيرة على كرامة الرئيس وفريقه السياسي، فهذه الكرامة لا ينتهكها ولا يسفكها إلا تفليس البلاد وإغراقها في العتمة والنفايات وسرقة ودائع المواطنين، والسكوت عن سرقة الدواء وحليب الأطفال، والعجز عن كشف المتورطين في جريمة تفجير بيروت وقتل نصف أبنائها والعبث بالقضاء خدمة للمصالح الخاصة.

كما أن التعبير عن الغيرة على هذه الكرامة تبدو مبتذلة وسوقية مع توصيف "أهل البدو" كشتيمة واتهام بالتخلف لمن استطاع تطويع الصحراء وتأمين المستوى المعيشي اللائق للمواطنين والمقيمين بمعدلات رفاهية ونمو جعلت من "بلاد البدو" قبلة للعمل والاسترزاق والحياة الكريمة ليس فقط من لبنان والعالم العربي ولكن من مختلف أصقاع العالم.

كان يمكن لمعاليه صد ما اعتبره إهانة ضد رئيسه بعبارات لا تخرج عن نطاق الدبلوماسية والأدبيات المتعارف عليها، فيخدم رئيسه ولا يورطه في أزمة علاقات، قد تؤذي أكثر من نصف مليون لبناني يعملون في الخليج، ويعيلون أسرهم، لولا رجاحة عقل "أهل البدو" وسعة صدرهم.

لكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود.. فالتجربة أثبتت أن الفريق الذي ينتمي إليه معاليه والفريق الذي يتحالف معه لا مشكلة لديهما في اعتناق مذهب رفض الآخر والتجييش ضده، خدمة للمحور الإيراني حتى لو كان الثمن التدمير الممنهج للبنان واللبنانيين.