أدلت طهران بدلوها. أعلنت عن اتصال أجراه إسماعيل قآني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري في إيران، برئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية. بدا أن المسؤول الإيراني يود أن يثبت "عبر الهاتف" أن إيران لاعب مؤثر لدى الحركة التي تحكم قطاع غزة لعل في نتاج الحرب "غلال" قد تدّعي طهران جنيها. بيد أن جهد طهران لا يتعدى الاتصال الهاتفي.
بالمقابل لن يتحرك حزب الله للتدخل في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المندلع حاليا. وما "مسرحية" الصواريخ التي أُطلقت من جنوب لبنان باتجاه البحر في إسرائيل، إلا تأكيد من قبل حزب إيران في لبنان أنه غير مكلف من قبل قادته في طهران لا بتحريك جبهة جنوب لبنان ولا حتى بالتلويح بذلك، وأنه يكتفي بتحركات "أهلية" على الحدود دفع أحد عناصره حياته ثمنا لها دون أي يصدر عن الحزب أي تهديد بالرد.
والواضح، على ما أكدته تجارب الصراع على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، أن تحرك حزب الله لا يجري وفق أجندة فلسطينية أو لبنانية، بل وفق ما ترسمه جمهورية الولي الفقيه في إيران، وأن وظيفة وأدوار الحزب في لبنان وسوريا وعلى حدود البلدين مع إسرائيل تتقرران وفق مواقيت طهران. وعلى هذا ما التحركات "الأهلية" الحدودية التي يدفع بها الحزب إلا استعراض للاستهلاك المحلي الذي لا يقلق إسرائيل، والأهم أنه لا يقلق واشنطن من ورائها.
تنحصر مصالح إيران هذه الأيام في صيانة علاقاتها المقبلة مع إدارة جو بايدن في الولايات المتحدة. تنظم مفاوضات فيينا الحالية واجهة التواصل بين واشنطن وطهران تحت عنوان ترتيب مداخل تفعيل الاتفاق النووي الذي أبرم في فيينا، أيضا، قبل 6 سنوات. وفيما تتحدث التقارير عن معوقات وصعوبات تربك تلك المفاوضات، يستميت رئيس الوفد الإيراني عباس عرقجي في ضخ أجواء الإيجابية والتفاؤل، حتى لو أدى الأمر إلى نفي أنباء مضادة تنشر في طهران، مؤكدا عدم دقتها ووجاهة مصادرها.
تعمل طهران على إنضاج إتفاق جديد مع واشنطن. تتوسط الدول الموقعة على الاتفاق النووي (روسيا، الصين، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا) لإعادة الولايات المتحدة إلى هذا الاتفاق الذي أنهى دونالد ترامب مبرر وجوده حين قرر سحب بلاده منه عام 2018. تلهث طهران للتخلص من سياسة العقوبات القصوى التي انتهجتها واشنطن مذاك، والسعي في فيينا إلى رفع فوري لأوسع مروحة من العقوبات الأميركية الموجعة على إيران التي تجرُّ وراءها آلياً عقوبات دولية تابعة.
تريد إدارة الرئيس الأميركي الجديد العودة إلى الاتفاق النووي. أعلن بايدن ذلك في وعوده التي أطلقها حين كان مرشحا للانتخابات التي أتت به رئيسا في نوفمبر الماضي. غير أن لتلك العودة قواعد وأصول وشروط تأخذ بعين الاعتبار عدة عوامل:
عامل القوة التي توفرها عقوبات ترامب للمفاوض الأميركي، وعامل الضعف الذي أصاب إيران جراء وقع هذه العقوبات.
وعامل الاعتراض والتوجس الذي تعبر عنه إسرائيل بصفتها الحليف التاريخي الاستراتيجي للولايات المتحدة.
إضافة لعامل التحفظ الذي تعبر عنه دول عربية تريد أن تكون جزءا من أي تفاهمات واتفاقات دولية مقبلة مع إيران.
وفي ثنايا الأهداف الإيرانية الأميركية لا دور تطلبه طهران من ذراعها العسكرية الأمنية في لبنان، وليس مطلوبا من حزب الله أو أي فصائل تابعة لإيران في سوريا افتعال أي مواجهة مع إسرائيل، ولا حتى الرد على الضربات الإسرائيلية التي تستهدفها.
وعليه فإن قضية القدس، والصراع حول "حي الشيخ جراح"، والحرب القائمة بين إسرائيل وقطاع غزة، تصبح في عرف طهران مسائل لا تندرج على أجندة ما هو أهم في فيينا. وعليه يبدو ما يصدر عن إيران وحزبها في لبنان حول ما يجري في فلسطين من قبيل رفع العتب، ويسارع حزب الله إلى التنصل من "مسرحية" الصواريخ المطلقة من جنوب البلد.
غير أن خيار "النأي بالنفس" عرضي يتغير بتغير الظروف وتبدل الملفات. كما أن ذلك الحياد تكتيكي يوحي للمفاوض الأميركي نفسه بما تملكه طهران من أوراق نائمة في ملف فلسطين بالذات قد يمكن إيقاظها.
لا يمكن لتلك الصواريخ المطلقة من تلك المناطق في جنوب لبنان أن تتفعّل دون إجازة حزب الله للأمر. ولا يمكن لأي فصيل فلسطيني في مخيمات لبنان أن يغامر بـ "إنجازه" هذا دون حصوله على شيفرة "غض طرف" من قبل هذا الحزب. غير أن غايات فيينا هذه الأيام أهم من غايات غزة، بما لا يتطلب إلا جهدا هاتفيا يجريه قائد "الفيلق" وتحرك مفتعل لـ "كتيبة الأهالي" التابعة لحزب الله في جنوب لبنان.
يبقى أن في حسابات الربح والخسائر وعلوم "الأمير" الميكيافيلي في أعراف إيران، شراء للقضايا والإعراض عنها وفق بورصة "البازار" في طهران.