يواجه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ردة فعل سلبية من كل القوى السياسية في أيرلندا الشمالية بعد طريقة الاعتذار عن مقتل 10 ايرلنديين على أيدي قوات الجيش البريطاني في أحداث عام 1971.
وللمرة الأولى في التاريخ يتفق الانفصاليون والوحدويون في أيرلندا الشمالية على أمر واحد: انتقاد بوريس جونسون. أرسل جونسون رئايل اعتذار لعائلات الضحايا بعد قرار القضاء أن الضحايا أبرياء وأن القوات البريطانية قتلتهم بلا مبرر. أهالي الضحايا اعتبروا التأخر في كشف الحقيقة لأربعة عقود اهانة وان عذر جونسون ليس جديا لأنه يعني ضمنا العفو عمن قتلوهم، فهو لم يعلن بيانا رسميا في البرلمان بالاعتذار ولا طالب وزارة الدفاع بكشف هوية القتلة. أما الوحدويون فيرون أن الاعتذار والعفو يفتح الباب أمام العفو عن انفصاليين مثل شين فين. في النهاية، يجنع النحللون السياسيون على أن هدف جونسون "تجاوز الماضي والمضي قدما" لم يتحقق.
صحيح أن حكومة حزب المحافظين تواجه مشاكل عديدة، من اتهامات بالمحسوبية والفساد إلى التقصير في مواجهة وباء كورونا في بدايته، لكن بروز أزمة في أيرلندا الشمالية الآن أهم وأخطر. فكل القضايا الأخرى قد تشكل لها لجان تقصي حقائق، ويعني ذلك في السياسة البريطانية أن المسألة "ستموت بالوقت إن شاء الله". لكن ما حدث في الأيام الأخيرة بالنسبة لأيرلندا الشمالية يفتح بابا تأتي منه رياح لا تشتهيها الحكومة في لندن. فهناك ما يشير إلى أن حكومة جونسون تتجه تتجه لاجراءات تقترب من فرض حاجز حدودي بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا بعد خروج بريطانيا من أوروبا (بريكست). في الوقت نفسه يتهم الأوربيون الحكومة البريطانية بانتهاك اتفاق منفصل عن اتفاق بريكست ينظم تبادل التجارة بين أيرلندا الشمالية وبقية بريطانيا حتى لا تصبح بابا خلفيا لتجاوز بريكست، لأن جمهورية ايرلندا ضمن الاتحاد. وتقع ايضا أيرلندا الشمالية ضمن الجزيرة الأيرلندية، بينما يفصلها عن الجزيرة البريطانية البحر.
الخطر هنا، أن نزعات الانفصال في أيرلندا الشمالية قد تزداد قوة، ما يهدد بانهيار اتفاقية السلام التي انهت الحرب الأهلية فيها بين الانفصاليين والوحدويين وتدخل فيها الجيش البريطاني والمعروفة باسم "اتفاقية الجمعة العظيمة". وتأتي مشكلة الاعتذار لضحايا في تلك الحرب الأهلية والعفو عن قاتليهم لتضيف الوقود لخلاف لم ينته في ذلك الاقليم. واقليم أيرلندا الشمالية واحد من أربعة اقاليم تشكل المملكة المتحدة، والثلاثة الآخرون هم انجلترا واسكتلندا وويلز. وتتمتع تلك الأقاليم بشكل من أشكال الإدارة شبه الذاتية ضمن الاتحاد المكون للملكة. وتاريخيا، يعتبر الأيرلنديون والاسكتلنديون أن انجلترا تتحكم في مصائرهم. ورغم أن الحكومة المركزية في لندن توفر قدرا مهما من دخل تلك الأقاليم، إلا أنهم يعتبرون "حكومة لندن" هي لانجلترا فقط ولا تهتم بهم.
ومنذ استفتاء بريكست عام 2016 وكثيرون يحذرون منأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد يهدد وحدتها كمملكة. مما عزز ذلك أن الاسكتلنديين مثلا صوتوا بأغلبية للبقاء ضمن الاتحاد الأوروبي. كذلك فعل قدر كبير من الأيرلنديين. ولم سكن تصويت الوبلزيين حاسما، إنما الانجليز هم من صوتوا بكثافة للبريكست. وفي مفاوضات اتفاق بريكست العام الماضي، حاولت حكومة حزب المحافظين أن تبدو متشددة في موضوع حقوق الصيد، باعتبار أن صناعة صيد الأسماك تتركز في اسكتلندا. لكن الوقاع على الأرض بعد الخروج النهائي مطلع هذا العام لا يطمئن الصيادين الاسكتلنديين. ويهدد الحزب القومي الاسكتلندي الحاكم للاقليم باجراء استفتاء ثان على الانفصال عن بريطانيا. وكانت حكومة الاقليم سبق وأجرت استفتاءا على الاستقلال في 2014 لكن نتيجته جاءت لصالح البقاء ضمن الاتحاد بفارق ضئيل جدا. بالطبع زادت المشاعر الانفصالية بين الاسكتلنديين بعد بريكست، وهذا ما يشجع الحزب القومي على اجراء استفتاء جديد.
تتضاءل كل المشاكل الأخرى التي تواجهها "حكومة لندن" أمام اي احتمال لانفصال اسكتلندا أو أيرلندا الشمالية. ويخشى بوريس جونسون أن يذكر في التاريخ بأنه رئيس الوزراء الذي انتهت في عهده "المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى". ويتجاوز القلق حكومة جونسون إلى كل الطبقة السياسية في لندن، فلا أحد من الطامعين في رئاسة الحكومة يرغب أن يكون رئيس وزراء انجلترا فقط.
لكن الأرجح أنه حتى إذا تمكن الحزب القومي الاسكتلندي من اجراء افتاء على الاستقلال فقد لا يصوت الاسكتلنديون بأغلبية للانفصال. ففي نهاية انجلترا هي الأغني بين الأقاليم الأربعة، وقدر كبير من ميزانية الحكومة الاقليمية يأتي من لندن. إنما المثير للقلق فعلا هو وضع أيرلندا الشمالية، خاصة بعد بريكست. وإذا بدأ فيها حراك الآن، فربما يكون الحل النهائي اتفصالها عن بريطانيا وربما انضمامها لجمهورية ايرلندا فتعود للاتحاد الأوروبي دون مخاطرة أن تصبح دولة مستقلة لا تكفيها مواردها الضعيفة.