لم يعد هناك من شك، لدى كل منصف، حيال صدق وثبات مواقف العرب اتجاه القضية العربية الأولى، قضية فلسطين.

فالدول العربية ومن خلال اجتماع وزراء الخارجية في جامعة الدول العربية، عبّروا قبل أيام عن الإدانة الشديدة لكل للانتهاكات التي أقدمت عليها السلطات الإسرائيلية للأماكن المقدسة، بل وأكدوا على "مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للأمة العربية جمعاء، وعلى أن "مدينة القدس الشرقية المحتلة، عاصمة دولة فلسطين، جزء لا يتجزأ من الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967".

مواقف ظنّ بعض المزايدين أنها ستختفي من القاموس السياسي العربي، بل وتمنوا ذلك ربما، فقط لأن عددا من الدول العربية قد أقدمت بكل جرأة على إبرام اتفاقيات سلام مع إسرائيل، حيث ساد الزعم لدى أولئك بأن ثمة "مقايضة" بين ذاك السلام، وبين حقوق الفلسطينيين التاريخية والقانونية، وذلك على الرغم من أن كل اتفاقيات السلام تلك قد نصت على تأكيد تمسك الدول العربية بحق الفلسطينيين في دولتهم، كما تنص على ذلك المواثيق الدولية، وكما اتفق على ذلك العرب.

ولعل اللغة الحازمة التي صيغت بها بيانات الجامعة العربية، وكل من بيان الخارجية المغربية، وكذا كلمة الوزير ناصر بوريطة في الاجتماع الوزاري العربي، باعتبار رئاسة العاهل المغربي للجنة القدس، كلها توحي بأن البيت العربي لم يفرط فعلا في القضية الفلسطينية، بل وأثبت العرب أن خيار السلام مع إسرائيل إنما كان لخدمة تلك القضية، وبحث سبل حلها، وإلا لو كان الخيار ينطوي على أي مقايضة، لقوبلت تلك الانتهاكات بالصمت المطبق، وهو الشيء الذي لم يحدث، بخلاف ما تمنى المغرضون حدوثه.

غير أن الغريب في الأمر أن لغة المزايدات تلك ما تزال مستمرة في التخبط، وبدل التسليم بأن العرب منسجمون في بيتهم الأول الجامع، الذي تمثله جامعة الدول العربية، كما هي مواقفهم منسجمة، والتي تعطي الاعتبار الأساسي للغة السياسة وأدوات التحرك الدبلوماسي، حيث التعبير عن الإدانة، وعدم الاختباء وراء التعابير الرمادية، وحيث الإعلان عن تشكيل مجموعات عمل للتحرك الدبلوماسي والضغط الدولي لدى الهيئات الأممية، في حين يطالب المتدخلون بما هو أكثر من لغة السياسة والحلول الدبلوماسية السلمية، وذلك بالرغم من أنها خيارات أثبتت فشلها منذ عقود طويلة، وبرغم ذلك لطالما زايد عليها المزايدون، ما يزالون يزايدون على من انتهجها منذ العام 1956 إلى العام 1973.

ثمة إذن من العرب من لن يرضى مهما بذل قادة الدول العربية الجهود لكي تأخذ التسوية السياسية السلمية طريقها، وحتى لو أكدت شواهد الحاضر أن للعرب مواقف مشرفة اتجاه القضية العربية الأولى، انطلاقا من الإجماع الأممي القاضي بحلّ الدولتين، والإجماع العربي، فضلا عن المشروع الوطني الفلسطيني، خصوصا وأن القضية تحتل مكانة جوهرية في وجدان الشعوب العربية، وما مواقف القادة العرب سوى تعبير عن ذلك النبض، باعتبار شرعية تمثيلهم للشارع العربي، كما يذهب إلى ذلك الكاتب والإعلامي المغربي الجيلالي بنحليمة، لدى تصريحه لموقع "سكاي نيوز عربية".

وفي التاريخ القريب، يسجل للعرب الكثير من المواقف الشامخة، كيوم أقدمت المملكة العربية السعودية على منع تصدير النفط عام 1973 تأييدا للحقوق العربية في وجه العدوان الإسرائيلي آنذاك، ويوم أقفل المغرب مكتب الاتصال مع إسرائيل غداة انتفاضة العام 2000، ما يؤكد أن العرب بقدر تمسكهم بحقوق الفلسطينيين، بقدر استعدادهم الدائم للوقوف في وجه أي اعتداء إسرائيلي، وبالوسائل السلمية والمشروعة في القانون الدولي، وهو الاتجاه الثابت الذي لم يتغير ولن يتغير، حتى ولو تمسك العرب بخيار السلام مع إسرائيل، ومنذ أيام الرئيس المصري الراحل أنور السادات، على حد تقدير الباحث المغربي أحمد نور الدين، في تصريح لموقع "سكاي نيوز عربية".

لقد تبنى العرب منذ مطلع الألفية الحالية، وعبر آلية جامعة الدول العربية، مبادرة عربية للسلام، سقفها هو نفسه سقف السلطة الفلسطينية، المؤسسة عام 1994، عقب اتفاق أوسلو عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وذلك بعدما تبنى الفلسطينيون مبدأ حل الدولتين منذ العام 1974 ضمن البرنامج المرحلي للمجلس الوطني الفلسطيني، تأسيسا على قرار الأمم المتحدة للعام 1947، ثم قرار مجلس الأمن 242 الذي صدر عقب حرب 1967، حيث المطالبة بدولة فلسطينية على الأراضي التي احتلها إسرائيل خلال تلك الحرب، والتي تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية.

هناك إذن مواثيق دولية واتفاقات عربية، علاوة على توافق فلسطيني، وتلك هي أحجار الزاوية التي تجعل المواقف العربية ثابتة، كما يرى الكاتب والباحث السياسي الفلسطيني، فراس ياغي، في تصريح لموقع "سكاي نيوز عربية"، والذي يتفق مع الباحث أحمد نور الدين في أن إسرائيل هي التي خرقت كما تخرق دائما آفاق السلام، وضمنها خروقاتها الراهنة التي تمثلت في الأحداث العنيفة التي شهدها حي الشيخ جراح المقدسي، لتتدحرج كرة الثلج نحو نُذُر حرب مع غزة، بدأ أوراها يشتد، وهو ما جعل الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط يحمل المسؤولية لإسرائيل.

أمام وضع سيء كهذا تتراءى مكونات المشهد الإسرائيلي الداخلي بين توجه غالب للرأي العام، رافض للحرب ونتائجها الوخيمة مسبقا، وبين تيارات دينية يرى البعض أن ثمة ميلا لدى نتنياهو لإرضائها كي تسانده في وجه خريطة سياسية جديدة تنذر بإبعاده وتعريضه للمحاكمة، فيما يطفق المشككون من أبناء جلدتنا في لوم نزعات السلام وتقويلها ما لم تقله، في حين أن قسما هاما من الإسرائيليين أنفسهم مؤيدون لحقوق الفلسطينيين، فبالأحرى إخوانهم العرب الذي أقدموا على خيار السلام الشاق من أجل فلسطين، وحينما تضررت فلسطيني هبّ الصف العربي متوحدا بكل إقدام للدفاع عن فلسطين، التي ستظل القضية المركزية الأولى لكل العرب حكومات وشعوبا.