المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة العربية يتلقى الهزائم والنكسات يوما بعد آخر، والأسباب واضحة، وهي أنه مشروع تدميري يتعارض مع مصالح شعوب المنطقة، وقيم العصر ومبادئ الدولة الحديثة القائمة على السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، والبحث الدائم عن المصالح المشتركة التي تقوم على أساس المنفعة المتبادلة.

المشروع الإيراني الذي سعى النظام الإيراني إلى تمريره منذ أربعة عقود ونيف، قائم على أيديولوجية بالية، تختزن بذور فشلها في داخلها، وهو ينتمي إلى عصور خلت، ويتجاهل كليا النظام العالمي الحديث الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، وتعزز بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الشرقية قبل ثلاثة عقود.

وهذا المشروع ليس جديدا، فالفكرة قائمة منذ مئات السنين في مخيلة قادة بلاد فارس، وهي أن الفرس أجدر من العرب والترك وباقي الأقوام لزعامة المسلمين، وقد صرح بذلك وزير الخارجية الليبي الأسبق، عبد الرحمن شلقم، في مقابلة متلفزة. والسيد شلقم، وزعيمه السابق، معمر القذافي، وحكومة ليبيا بأكملها، كانوا جميعا متحالفين مع النظام الإيراني في فترة الثمانينيات، أثناء ما كانت إيران تواصل حربها على العراق، وصواريخها تسقط على رؤوس المدنيين في البصرة وبغداد، تلك الحرب التي راح ضحيتها مليوني إنسان من الطرفين، وكلفت مئات المليارات من الدولارات، وكان من تداعياتها غزو الكويت ثم احتلال العراق.

أخبرني الراحل هاني فحص، المفكر اللبناني الشيعي المعروف، أنه زار إيران بعد نجاح الثورة عام 1979، برفقة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وكانوا جميعا فرحين بنجاح (الثورة الإسلامية)، باعتبار أن موقفها المعلن مساند للشعب الفلسطيني، إلا أنه فوجئ بوجود حركة قومية إيرانية، وليست حركة إسلامية، الأمر الذي ذكّره بضرورة أن يكون لبنانيا "فعدت إلى لبنان وأنا أكثر تمسكا بوطنيتي اللبنانية"! وقد صرح السيد فحص بهذا الأمر إلى وسائل إعلام أخرى ومازال متوفرا على اليوتيوب. وهذا هو بالضبط ما أدركه كثير من العراقيين والعرب، أن المشروع الإيراني ليس إسلاميا، بل إيراني أيديولوجي بحت.

لم ينجح المشروع الإيراني حتى في العصور السالفة، عندما تمكنت بعض الحركات الثورية من الانتصار لفترات مؤقتة، لأنه قائم على أسس فوقية عنصرية تتبنى العداء للآخر وإرغامه على إلغاء نفسه وهويته القومية، وتبني قيم تلغي وجوده وكيانه وانتماءه الوطني، وتجعله تابعا ذليلا لمجموعة قومية تعاديه تأريخيا.

وإن كان إيرانيون قد تمكنوا عبر التأريخ من التحكم بالدولة العباسية لفترات قصيرة، فقد كان ذلك التحكم في ظل القيادة العربية للدولة، التي لم تميز ضد الأقوام الأخرى التي اعتنقت الإسلام، ولكن عندما انتبهت إلى الأطماع الإيرانية، قامت بتصحيح الأوضاع وإبعاد الطامعين. فعندما حاول أبو مسلم الخراساني انتحال الأصل الهاشمي، بهدف انتزاع الخلافة من العرب، أمر الخليفة أبو جعفر المنصور بقتله، رغم أنه كان من مؤسسي الدولة العباسية.

في العصر الحديث، حاول الإيرانيون جاهدين أن يهيمنوا على العراق، وتحديدا في زمن الشاه محمد رضا بهلوي، لكن أقصى ما تمكنوا من تحقيقه هو السيطرة على شط العرب العراقي، عبر اتفاقية الجزائر، التي أصبحت مشكلة مستمرة للعراق، لأنها أعاقت استخدام العراق للقناة الملاحية عندما أصبح نصفها إيرانيا بموجب الاتفاقية، وسمحت بتمدد إيران البطيء نحو البصرة، لأن المياه المنحدرة إلى الخليج العربي تجرف ضفة النهر في الجانب العراقي، فتجعل الحدود الإيرانية تتمدد نحو العراق.

تلك الاتفاقية المجحفة التي وقعها صدام حسين وشاه إيران، تتمسك بها إيران (الإسلام) رغم أنها تخنق العراق وتتمدد في أراضيه وتحرمه من استخدام قناة شط العرب الملاحية. إضافة إلى ذلك، أقدمت إيران في السنوات الأخيرة على حرف مسار نهر الكارون الذي ينتهي في شط العرب، ونهر الكرخة الذي يصب في أهوار العراق، ولم يعد يصل العراق منهما أي كمية من المياه، ما تسبب في تزايد الملوحة في جنوبي العراق.

وقد تأجج طموح إيران بالسيطرة على العراق وبلدان أخرى بعد (الثورة الإسلامية) وأخذت تؤسس جماعات مسلحة موالية لها، تغذيها بالشرعية الدينية والمظلومية الطائفية، وتدفعها إلى العراق لممارسة (السياسة) المعززة بالسلاح. لكن إيران لم تنجح في مسعاها إلا بعد أن أسقط الأمريكيون النظام السابق وحلوا الجيش العراقي والأجهزة الأمنية المتعددة، بما فيها حزب البعث الذي كان في الحقيقة جهازا أمنيا، أكثر منه حزبا سياسيا، ما مكَّن هذه الجماعات من العودة إلى العراق وملء الفراغ.

غير أن هذه الجماعات التي تدعو علنا إلى (ذوبان العراق في إيران) وأن (العراق وإيران دولتان بقائد واحد) وتهتف في الشوارع (إيران والعراق لا يمكن الفراق) وأنها تعمل (من أجل التمهيد لظهور المهدي المنتظر) و(إقامة دولة العدل الإلهي)، لم تقنع إلا قلة قليلة من البسطاء، الذين يعانون من ضعف الانتماء الوطني، ولم تلقَ آذانا صاغية بين العراقيين المتمسكين بدولتهم وهويتهم الوطنية، التائقين إلى العيش في دولة عصرية منسجمة مع العالم المعاصر.

وعلى الرغم من الهجمات الإرهابية المتتالية التي تلقاها العراقيون على مدنهم وقراهم من جماعات إرهابية متمرسة، مثل داعش والقاعدة، فإنهم لم يرضخوا لحَمَلة السلاح، مهما كانت مسمياتهم، فهدفهم واحد في النهاية، وهو إخضاع العراقيين لسلطتهم ونهب أموالهم وتدمير مستقبلهم ورهن إرادتهم بسياسة دولة أخرى، تعمل منذ مئات السنين على الهيمنة على العراق.

وكلما تمادت الجماعات المسلحة في القتل والخطف والنهب، ازداد احتقار العراقيين لها ولقادتها ولمن يقف وراءها، واشتدت معارضتهم لوجودها. لا يخفي قادة إيران أطماعهم في العراق، فقد أصبحت زياراتهم إلى البلد متواصلة، خصوصا أولئك الفاشلين منهم والمحاصَرين داخليا.

رئيس السلطة القضائية الإيرانية، إبراهيم رئيسي، الذي فشل في الفوز في أي منصب عبر الانتخابات، يزور العراق ويستقبله أرفع المسؤولين العراقيين، بمن فيهم رئيس الجمهورية، بحفاوة لا تليق إلا بالزعماء الكبار. وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، الذي واجه ضغوطا شديدة في إيران، حتى من حليفه ورئيسه روحاني، بسبب (تسريب) شريط ينتقد فيه تدخل الحرس الثوري في السياسة الخارجية، جاء هو الآخر إلى العراق كي يحرز نصرا يدعم موقفه الضعيف في إيران، بعد فشله في إحراز أي تقدم في مفاوضاته مع الدول الغربية حول رفع العقوبات عن إيران.

لكنه جاء إلى العراق واستقبله المسؤولون في بغداد وغيرها من المدن العراقية، وكان يروج (للربط السككي) بين العراق وإيران، هذا الربط الذي وصفه وزير النقل العراقي السابق، عامر عبد الجبار إسماعيل، بأنه محاولة من إيران لنقل الممنوعات عبر العراق إلى سوريا، وقال الوزير السابق، وهو الخبير والمطلع على شؤون النقل، إن العراق لن يستفيد من هذا المشروع الإيراني مطلقا، وكل ما يقال إنه سيجلب أشغالا ووظائف للعراقيين هو محض كذب وتضليل، مضيفا أن هؤلاء المسؤولين العراقيين يعملون لصالح إيران "وهنيئا لإيران بهم".

أما قادة (فيلق القدس) فهم يدخلون دون استئذان أو دعوة رسمية ولا تعلم بدخولهم وزارتا الخارجية أو الداخلية، ويتباحثون مع قادة المليشيات الموالية لهم، ولا أحد يعرف ما هي الأمور التي يبحثونها معهم وهل لها علاقة بأمن العراق أم أمن إيران أم التوسع الإيراني في المنطقة. لكن المعروف أن الجماعات المسلحة تواصل هجماتها على المؤسسات العراقية من مطارات ومعسكرات، وسفارات وبعثات دبلوماسية وشركات أجنبية عاملة في العراق، وقتل وخطف الناشطين العراقيين وقمع المتظاهرين ضد حكومة بلدهم.

والغريب أن الزعيم الإيراني، علي خامنئي، يوجه رسائل صوتية باللغة العربية وتغريدات مكتوبة بالعربية إلى (الشعب العراقي) باستمرار! ما الهدف الكامن وراء مخاطبة زعيم دولة أجنبية شعبا آخر مباشرة وبلغته؟ ولماذا كل هذا الاهتمام بالشعب العراقي الذي حاربه خامنئي ثماني سنوات وتسبب في قتل مئات الآلاف من أبنائه؟ ومازال يحاصره بميليشياته ويهاجم معسكراته ومطاراته والسفارات الاجنبية فيه بصواريخ الكاتيوشا والطائرات المسيرة؟

الحقيقة هي أن خامنئي وباقي زعماء إيران يعلمون جيدا أنهم مرفوضون في العراق، وأن الشعب العراقي غاضب جدا من تدخلاتهم وأعمال القتل والخطف والنهب التي يمارسها أتباعهم في العراق، والتي يعتقد العراقيون أنها بأوامر مباشرة من القادة الإيرانيين. كما يعلمون أيضا أن العراق هو المتنفس الوحيد المتبقي لهم بعد أن نبذتهم دول العالم بسبب سياساتهم العدوانية والتخريبية وانتهاكاتهم المستمرة للقانون الدولي وحقوق الإنسان في إيران وسيادة الدول الأخرى التي يتدخلون في شؤونها تحت ذرائع دينية ومذهبية واهية.

المشروع الإيراني في العراق ولد ميتا، وهو الآن يتراجع بخطى سريعة لأنه مصمم في الأصل لأجل الإضرار بالعراق وتسخير هذه الدولة التأريخية، التي نشأت فيها أولى الحضارات، وسُنت فيها أولى القوانين واختُرعت فيها أولى العلوم، لصالح إيران. العراقيون، وإن تمتعوا بصفات الكرم ومساعدة الآخر وحسن الظن به، لكنهم يعلمون أن إيران، في ظل كل الأنظمة التي حكمتها، لم تسعَ لخير العراق، بل العكس حصل في كل الأزمان. العراق دولة راسخة تأريخيا، وشعبه يحمل هوية رافدينية يعززها الانتماء لأولى الحضارات في التأريخ، ونذكّر الإيرانيين بأن إيران كلها كانت تحكم من بغداد لمئات السنين، وكان قادة العراق يعيَّنون ولاة إيران ويقيلونهم: (أيها الوالي بقم قد عزلناك فقم) كما كتب حاكم العراق، الصاحب بن عباد، في رسالة إلى عامله في قم.

العراقيون الآن نهضوا من كبوتهم ولن يقبلوا بأقل من دولة عصرية مستقلة قوية تحترم الإنسان وتساوي بين سكانها ومواطنيها، وتخلو من المليشيات والتدخلات الأجنبية. لقد قدموا مئات الشهداء حتى الآن، ومازالوا يقدمون، فلا حياة كريمة يمكن أن تقوم في العراق إن بقي ذيول إيران يتحكمون بالدولة والمجتمع. لقد ثار شباب العراق ضد مليشيات إيران الإجرامية، وواجهوا الموت بصدورهم العارية ولم يخشوا أحدا، وأول من ثار هم أبناء المدن الشيعية لأنهم أدركوا أن إيران تستهدفهم وتريد استعبادهم والاستيلاء على بلدهم باسم المذهب، الذي لم يكن مهددا يوما من الأيام.

كربلاء الآن تنتفض بقوة وشبابها يتحدون إيران وميليشياتها، وسوف يأتي اليوم الذي لا يجد فيه ذيول إيران ملاذا يحميهم من حساب الشعب العراقي. لقد قتلت مليشيات إيران الناشط المدني الكربلائي المعروف، إيهاب جواد الوزني، ما دفع بآلاف السكان إلى الشوارع للاحتجاج على هذا الظلم البواح الذي وقع عليهم.

المشروع الإيراني فشل في العراق، والشعب العراقي رافض له ويزداد رفضا كل يوم، والنظام الإيراني أول من يدرك هذه الحقيقة، لذلك أصيب بالهلع وأخذ مسؤولوه يخاطبون العراقيين باللغة العربية ويستجدون عطفهم باللجوء إلى الدين والمذهب، ولكن هيهات، فالذي قتل العراقيين وأذلهم ونهب أموالهم وغيب شبابهم لا يمكن التصالح معه ولا حل إلا بخروج آخر ذيل إيراني من العراق.

النظام الإيراني سيحاول البقاء في العراق، بطريقة أو بأخرى، وعبر ذرائع شتى، ولكنه لن يستطيع، فحتى شعوب إيران، التي تعاني من العقوبات الدولية والفقر والقمع والتعسف والتخلف وتزوير إرادتها عبر انتخابات هزلية، لم تعد تتقبل هذا التدخل في شؤون الدول الأخرى، وتطالب بأن تهتم حكومة إيران بالشؤون الداخلية، بدلا من تبديد الثروة على التسلح والقتال في دول أخرى.

هناك حاجة لأن ينشط العراقيون في الداخل والخارج كي يوضحوا للعالم المأساة التي يقاسونها بسبب تدخلات إيران في العراق، التي تدعمها المليشيات المسلحة، والتي لم تسلم من شرورها دول المنطقة. هناك حاجة لتضافر جهود دول المنطقة مع الجهود الدولية لإيقاف النظام الإيراني عند حده وإرغامه على احترام سيادة العراق ودول المنطقة الأخرى.