ذات ليلة في مطلع التسعينيات كنت وعدد من الأصدقاء في أحد مقاهي وسط القاهرة الساهرة، وأخذنا الحديث من الشعر إلى الرواية ومن التاريخ ودروسه إلى المستقبل وأحلامه، كان الحديث مزيجا مبهجا من الجد والهزل حتى فاجأني أحد الأصدقاء بسؤال، بعد طرفة رويتها عن شاعر النيل حافظ إبراهيم.

فأما الطرفة فهي واقعة مبكية لا تخلو من سخرية حيث كان حافظ إبراهيم وبعد أن رحل عنه أبوه وهو ما يزال صبيا، يعيش في كفالة خاله وشعر حافظ بأن خاله يضيق بكفالته مما أثر في نفسه فقرر أن يغادر منزل خاله وترك له رسالة دون فيها بيتين من الشعر يقول فيهما:

ثقلت عليك مؤونتي

إني أرها واهية

فافرح فإني ذاهب

متوجه في داهية

وأما السؤال فكان: إذا كنت تعيش في زمن حافظ إبراهيم فمن كنت تتمنى أن تكون حافظ إبراهيم أم أحمد شوقي؟!

ضحكت وضحك الأصدقاء ففي السؤال مكر يشير إلى ثراء شوقي وفقر حافظ، وليس إلى موهبتهما بالطبع فأجبت طبعا حافظ إبراهيم ليمتد الحديث عن حافظ وسيرته العطرة.

وحافظ إبراهيم إلى جانب قدراته فائقة الجمال والعذوبة على مستوى الإبداع الشعري كان ذا حضور أخاذ يضعه في موقع متميز داخل قائمة المضحكخانة المصرية العريقة.

يقول عنه أستاذنا الجليل شوقي ضيف: كان حافظ أهم من عاصروا الشيخ البشري سرعة خاطر وحضور بديهة.

يروى عنه أنه كان يلبس بدلة لا يغيرها فقال له أحد أصدقائه لماذا لا تغير هذه البدلة فأجاب على الفور لأن فيها صفتين عزيزتين: القدم والوحدانية يريد أن يقول إنه لا يملك سواها.

وقصص شاعر النيل الطريفة لا تحصى وكان إبداعه الشعري الأنيق لا يخلو من هزليات تمنح الحاضرين في جلسته البهجة والمرح.

حيث يواصل أستاذنا شوقي ضيف حديثه عن حافظ فيقول: "ولم تكن في حافظ هذه النكتة البارعة فحسب بل كان معها حلو المعشر فكه الحديث يعرف كيف يروي النوادر والأخبار فكان كبار المصريين يتلقفونه في مجالسهم وممن كان يعجب به وبحديثه إعجابا شديدا زعيم الأمة سعد زغلول".

وكان حافظ إبراهيم صديقا للشاعر السوداني إمام العبد واشتهر إمام العبد بخفة ظله هو الآخر فكانت مساجلات الرجلين الساخرة حديث معاصريهم.

غاب إمام عن مجلس الأصدقاء فذهب حافظ إبراهيم لزيارته في منزله وكان إمام يعيش في منزل صغير فعاد حافظ ليخبر الأصدقاء بأن بيت إمام ضيق جدا وقد سمعت أن خفير الدرك يشكو كل ليلة من أنه حين يمر بمنزله يتوقف عن المرور وينادي: يا إمام رجليك طالعة من الشباك يا أخي مش ضروري تنام متمدد.

ورغم الصداقة التي كانت تجمع حافظ إبراهيم بأحمد شوقي فقد كانت المبارزات الشعرية والنثرية بين العملاقين حاضرة في مسيرتهما.

مع احتفاظ شاعر النيل بقدرات أعلى من أمير الشعراء في السخرية والنقد اللاذع.

ذات مرة كتب الدكتور محمد حسين هيكل مقالا عنهما بعنوان شوقي وحافظ، وبلغ حافظ أن شوقي غضب لذكره معه في مقال واحد حيث كان يرى نفسه فوقه في الشعر، فقال لماذا يغضب؟ أما سمع الناس يقولون: زفتى وميت غمر؟ أو يقولون سميط وجبن وخيار وفاقوس، أو عسل وبصل، ثم يضيف ساخرا: أما من يكون العسل ومن يكون البصل فهذه مسألة أخرى.

فكاهة أمير الشعراء:

قلنا إن شوقي لم يكن مشهورا بالدعابة أو النكتة كما كان صاحبه حافظ لكن ديوانه الزاخر بكل ما هو رائع لا يخلو من دعابات كما يقول شوقي ضيف ولأن محجوب ثابت الذي عرفنا جانبا من صفاته في مقال سابق كان واحدا من معاصريه فقد ناله جانبا من سخرية شوقي الشعرية.

عرف عن الدكتور محجوب ثابت أنه كان يركب حصانا ولأنه كان بخيلا فقد كان لا يطعم حصانه حتى أطلق أصدقائه على الحصان اسم " مكسويني" وهو اسم بطل أيرلندي انتحر جوعا في إشارة لضعف الحصان وهزاله، المهم أن الدكتور محجوب ثابت استبدل الحصان بسيارة كانت لا تختلف كثيرا عن الحصان فكتب شوقي مداعبا محجوب ثابت:

لكم في الخط سيارة

حديث الجار والجارة

إذا حركتها مالت

على الجنبين منهارة

وقد تحرن أحيانا

وتمشي وحدها تارة

ولا تشبعها عين من البنزين فواره

عظيمة هي مهارة المصريين في التنكيت وقائمة المضحكخانة تستطيل بمرور الزمن فشعب شهد من الشدة والرخاء صنوفا شتى يبقى كما يقولون قادرا على استخلاص الفكاهة والدعابة حتى في أصعب اللحظات بل ربما تتفجر الفكاهة والدعابة عند المصريين كأحد أهم أسلحة المواجهة.