ليس الفردُ معطًى من معطيات الطّبيعة. الكائن، أو الإنسان، هو مَن يتمتَّع بالوجود الطّبيعيّ بما هو كائن حيّ. الفردُ لحظةٌ متأخّرة في تاريخ الكائن البشريّ لا تعود إلاّ إلى بضعٍ قليلٍ من مئات السّنوات. وهو نتاج تاريخٍ من التّطوّر الإنسانيّ لا صلةَ للطّبيعة به.
لذلك لا يُشار بمفهوم الفرد إلى الخصائص الحيويّة- البيولوجيّة للكائن البشريّ، وإنّما إلى الكيانيّة الوجوديّة- الاجتماعيّة التي يكون عليها حينما يصير فرداً؛ أي متمتّعاً بسماتٍ وأبعادٍ وحقوق لم تكن له حين كان محضَ حالةٍ جزئيّة من الوجود البشريّ الجمْعيّ.
من البيّن، هنا، أنّ الفرد ليس مفهوماً بيولوجيّاً ينتمي إلى علم الأحياء، بل هو مفهومٌ اجتماعيّ وسياسيّ تبحث فيه فلسفةُ السّياسة وعلم الاجتماع وعلم الاجتماع السّياسيّ، كما يمكن أن يكون موضوعاً للأدب والفنّ الحديثيْن. ولأنّه كذلك، فهو - حكماً- صناعةُ مجتمع ودولة، ولكن لا أيّ مجتمعٍ ودولة (هكذا بإطلاق)، بل من موجودات المجتمع والدّولة الحديثين، اللّذين يجد فيهما تاريخَه الخاصّ ككيانيّة مستقلّة.
لا يمكن فهم هذه الحقيقة إلاّ من طريق العودة بالذّهن إلى مرحلة ما قبل ميلاد الفرد؛ إلى المجتمع التّقليديّ الذي لم يكن يوفّر شروط تَبَلْوُر ذاتيّةِ الفرد لسببٍ معلوم هو: نوع النّظام الاجتماعيّ الذي كان سائداً في ذلك المجتمع. ساد النّظام الجمْعانيّ المجتمعات قبل الحديثة، وظلّ يمثّل هندستَها الاجتماعيّة التي يُعاد إنتاجُها داخلها، في شكلٍ كان يَنْعاد به إنتاجُ المجتمعات تلك. ومبْنى النّظام الاجتماعيّ ذاك على العلاقات القَرابيّة، وما يتولّد منها من روابط تُسْفِر عن بنى اجتماعيّة مغلقة، نظيرَ تلك التي حلّلها عبد الرحمن بن خلدون انطلاقاً من الرّابطة المؤسِّسة والحاكمة لها، كبُنًى؛ تلك التي سمّاها بالعصبيّة. وهذه كنايةٌ عن رابطة تضامنيّة تتنشّأ بين مكوّنات جماعةٍ اجتماعيّةٍ مّا على قاعدة الاعتقاد بالنّسب الواحد أو بقرابة الدّم أو ما في معنى ذلك من روابط "طبيعيّة".
لم يكن في التّكوين الاجتماعيّ التّقليديّ ما يسمح بنشوء أفرادٍ ولا طبقات اجتماعيّة ولا أيّ نوعٍ من أنواع الانقسامات الأفقيّة التي تتمايز بها التّكوينات الاجتماعيّة الصّغرى وتَتَبَنْيَن في وحدات أو بنى اجتماعيّة مستقلّة. كان الانتظام الجماعيّ، أو الانتظام في جماعات، هو الحاكم وكان يخلق، بالتّالي، شعوراً مشتركاً بجماعيّة الوجود الاجتماعيّ وباستحالة العيش خارج أكنافه. وما كان يمكن الجماعات تلك - المتجسّدة في قبائلَ وعشائرَ وأفخاذ ووحداتٍ مناطقيّة مغلَقة - أن يبلُغ الانتظامُ بها حدود الانصهار في بنيات مغلقة، تعيد إنتاج نفسها، لولا فاعليّة علاقات التّضامُن والالتحام في تمتين عصبيّتها الذّاتيّة في مقابل عصبيّات أخرى. وقد يَتّسع نطاق علاقات التّضامُن والمُحالَفَة فتنشأ من جماعات عدّة جماعةٌ عصبويّة كبرى يتحقّق الالتحام بين مكوّناتها على قاعدة حاجات موضوعيّة تفرض عليها التّضامن، وقد تضيق فتقتصر على الوحدات الاجتماعيّة القرابيّة فحسب.
يمكن إدراكُ الأسباب التي كانت تحمل المجتمعات التّقليديّة تلك على الانتظام داخل هذا النّظام الجمعانيّ: الضّرورات الموضوعيّة التي تفرض التّضامن الجمعيّ للدّفاع، أو لتقسيم العمل في نطاق اقتصاد جماعويّ: رعويّ أو زراعيّ... إلخ، ناهيك بمنظومة قيم تحرص على التّزاوج من داخل البنيات العصبويّة لتعظيم موارد الجماعة. وهذا يعني، في مستوًى آخر، أنّ روابط الدّم لم يقعِ التّمسُّك بها إلاّ لما تؤدّي إليه من وظائف اجتماعيّة حيويّة في استقرار الجماعة الأهليّة التّقليديّة وفي إعادة إنتاج وجودها. لهذا ما كان يمكن لنظامٍ اجتماعيّ مغلَق، من هذا الطّراز، أن يفتح إمكان انبثاق كيانيّة فرديّة فيه إلاّ متى كان ذلك إيذاناً بانفراطه كنظام.
ولقد احتفظت لنا أنظمة الأعراف السّائدة في المجتمعات الجماعويّة قبل الحديثة بالقرائن الدّالة على انعدام معنى الفرد في النّظام الجمْعانيّ الذي ساد فيها؛ فالثّأرُ والقِصاص، مثلاً، لم يكن فرديّاً؛ أي لم يكن يُنزِلُه فردٌ بفرد، بل كان جماعيّاً تَقْتصّ فيه جماعةٌ من جماعة. وهذا ما كان يُلجِئ القاتل إلى الجوار. وغالباً ما كان الجوار - الذي يصْهَر الوافد في بنية الجماعة المستجيرة له- يقود إلى المحالفة أو إلى استنفار حميّتها التّضامنيّة الدّفاعيّة عن نفسها وعن المستجير بها الذي أصبح منها. وقِسْ على ذلك عادات الجماعات التّقليديّة وتقاليدها الجماعيّة في العمل والأكل والاحتفالات والمآتم والتعبُّد والرّقص... ممّا كانت لا تُفرد فيه مكاناً لأيّ كيانيّةٍ فرديّة مستقلّة.
لم تبدأ فرديّة الفرد تتبلور، وتتولّد معها استقلاليّتُه الذّاتيّة النّسبيّة، إلاّ غداة التّفكّك التّدريجيّ -طويل الأمد- الذي طرأ على البنى الجماعويّة التّقليديّة، بدءاً من نهايات العصور الوسطى، في امتداد تَفكُّك نُظم الإنتاج والعيش الجماعوية، حين ابتدأ النّظام الإقطاعيّ في الأفول. تعزّزت هذه السّيرورة بنشوء المُدن وبداية الصنائع الجديدة والنّظام الميركنتيليّ التّجاريّ، وتوسُّع نطاق علاقات الإنتاج الرّأسماليّة. ولقد ترافق خروج الفرد من شرانق الجماعة مع بداية التّبنْيُن الطّبقيّ للمجتمعات الحديثة نتيجة توسُّع نطاق الملكيّة الخاصّة وتوسُّع الصّناعة وعمليّة البَلْتَرة؛ وهي جميعُها آذَنَتْ ببدء الانتقال من المجتمعات الزّراعيّة إلى المجتمعات الصّناعيّة.
هذه كانت الموجة الأولى للفردانيّة؛ تلك التي أتتْ فيها هذه تُحْدِث ثورةً عميقة في النّظام الجمعانيّ المغلَق، وتفتح أفقاً امام تكوُّن مجتمع جديد؛ مجتمع الاعتراف بالذّات الفرديّة، وبالأنا المُفرَدة. ما كان مستغْرَباً أن تتولّد من هذه السّيرورة فلسفةٌ للذّات والأنا عبّر عنها، في مَن عبّر، الكوجيتو الدّيكارتيّ: أنا أفكّر، إذن أنا موجود.
هي، إذن، شهادةُ ميلاد الفرد في العصر الحديث واللّحظةُ الابتدائيّة للفردانيّة.