لا حديث خلال هذا الأسبوع في الولايات المتحدة خصوصا بين الجاليات العربية والإسلامية وبالطبع الجالية الأرمنية سوى عن قرار الرئيس جو بايدن بالاعتراف بما يمكننا أن نسميه بـ(الهولوكوست التركي ضد الأرمن).
وبداية لا بد من الإشارة إلى أنه قد سبق للكونغرس الأميركي أن اعترف بإبادة الأرمن في ديسمبر من عام 2019 في تصويت رمزي، لكن الرئيس دونالد ترامب والذي كانت تربطه علاقة جيدة إلى حد ما بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، رفض استخدام هذه العبارة واكتفى بالحديث عن "واحدة من أسوأ الفظائع الجماعية في القرن العشرين" على حد قوله.
في تلك الأحداث المأساوية قُتل بين مليون و1.5 مليون أرمني بين عامي 1915 و1917 خلال الأيام الأخيرة للسلطنة العثمانية وإن كان هذا القتل الجماعي قد وُضع أساسه في عامَ 1895 بغية تقليص عدد الأرمن في تركيا، والقضاء عليهم قضاء تامًّا في المستقبل.
السلطنة العثمانية كانت اشتبهت في أن الأقلية الأرمنية تأمرت مع روسيا في الحرب العالمية الأولى بالرغم من عدم وجود أدلة تاريخية قاطعة تحسم بوجود ذلك التآمر بشكل جماعي.
اليوم أعاد اعتراف الرئيس الأميركي جو بايدن رسميًّا بالإبادة الجماعية للأرمن ذكرى تلك المذبحة البشعة والقتل الممنهج والتهجير، حيث تعرُّض الآلاف من الأرمن للتعذيب والضرب واغتصاب النساء ومصادرة الممتلكات.
وسيق الكثيرون منهم لمسافات طويلة في الجبال بلا طعام أو شراب ليلقوا حتفهم، والعالم الغربي كله يعترف بذلك الهولوكوست حيث تُصنِّف أكثر من 20 دولة الواقعة كمذبحة، من بينها فرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا وغيرها.
اليوم في واشنطن وفي نيويورك، حيث تتواجد الجالية الأرمنية في قلب مانهاتن وفي جميع أنحاء المنطقة لا سيما في حي بايسايد في بروكلين وشمال شرق نيوجيرزي ما زال أفرادها يجتمعون كل سنة في ذكرى تلك المجازر التي لا يتقن القيام بمثلها سوى مغول الأتراك.
وعندما تسألهم لماذا يجتمعون تكون الإجابة دائما: "نحن نحيي ذكرى الضحايا حتى لا يضيع التاريخ أبدا أهوال ما حدث، ونتذكر حتى نظل يقظين دائماً ضد التأثير المدمر للكراهية بجميع أشكالها" مستلهمين ذلك من العبارات التي وصف بها الرئيس الأميركي تلك المذابح.
هذا الإعلان التاريخي الأميركي أثار حنق تركيا وزاد من توتر العلاقات بين البلدين العضوين في حلف شمال الأطلسي، لكن غاب عن بال الأتراك أنه ولعقود طويلة، ظل الرؤساء الأميركيون المتعاقبون على البيت الأبيض يتجنبون وصف ما حدث للأرمن بالإبادة الجماعية، وكان موقف الولايات المتحدة الرسمي هو وصف ما حدث بـ"أعمال فظيعة"، للحفاظ على العلاقات مع تركيا، الدولة العضو في حلف "الناتو".
لكن لدى الرئيس بايدن تحديدا ما يدعوه شخصياً إلى الاعتراف بالمذابح ضد الأرمن، إذ أنه قدم عام 1987، عندما كان عضواً في مجلس الشيوخ مشروع قانون بشأن تعريف الإبادة الجماعية.
المهم اليوم هو أن هذا الإعلان حظي بترحيب المجتمعات الأرمينية والمشرعين والمدافعين عن حقوق الإنسان الذين ضغطوا من أجل إعلانه، لكنه كما قلنا سيضر أيضا بالعلاقات المتوترة أصلا مع تركيا، إذ رأى الأتراك فيه أنه إنكار حقيقة أن السلطنة العثمانية شهدت في نهاية عهدها حرباً أهلية تزامنت مع مجاعة، مما أدى إلى مقتل ما بين 300 ألف و500 ألف أرمني وعدد مماثل لهم من الأتراك حين كانت القوات العثمانية وروسيا تتنازعان السيطرة على الأناضول وهي رواية مختلقة أسقطت في التاريخ التركي المكتوب لأجل تبرير مجزرة تدعمها آلاف الوثائق المصورة وآلاف الشهود والمؤرخين من غير الطرفين ولا أدل على كذب الرواية التركية من أنه وفي مدينة إسطنبول تحديدا هناك متحف عسكري خصصت غرفة منه لـ"العلاقات التركية الأرمنية".
ورغم أنها مليئة بالصور التاريخية، لا تجد أي منها تصور أرمينيا مقتولا، بل صور توثق جثث الجنود الأتراك الذين تقول تركيا إنهم تعرضوا للتعذيب والقتل على أيدي "العصابات الأرمينية" بينما بين أيدينا جميعا ما لا يحصى من الصور للضحايا الأرمن، بل أن القادة الأتراك يعربون أحيانا عن أسفهم لعمليات القتل وهو في علم النفس إحساس مبطن باقتناعهم بما حدث من إبادة جماعية للأرمن.
بالعودة إلى القرار الأميركي فقد حظي إعلان بايدن هنا في واشنطن بدعم واسع من أعضاء الكونغرس، حيث أن السيناتور الديمقراطي أيد ماركي أثنى على هذه الخطوة التي لم يقم بها رئيس سابق وقال ما نصه: "تعهد الكثيرون بالاعتراف رسمياً بالإبادة الجماعية للأرمن، لكن لم يفعل أي منهم ذلك حتى اليوم".
كذلك رحب السيناتور الديمقراطي ميشيل بيننت بإعلان بايدن وقال: "في يوم ذكرى الإبادة الجماعية للأرمن، يسعدني أن أرى الرئيس بايدن يعلن الاعتراف رسمياً بهذه المأساة على أنها إبادة جماعية. اليوم، نفكر في الخسارة الكارثية في الأرواح، ونجدد التزامنا بضمان عدم تكرار ذلك أبداً".
منذ إعلان بايدن بدأ تخبط نظام أنقرة حيث أصبحت عشرات الدول اليوم تصف وتصنف تلك الواقعة كمذبحة ورأينا ذلك التخبط عندما قدم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تعازيه بعد إعلان بايدن بدقائق تزامناً مع الذكرى الـ106 للمذبحة لـ"الأرمن العثمانيين الذين فقدوا أرواحهم في ظل الظروف الصعبة للحرب العالمية الأولى"، في رسالة إلى بطريرك الأرمن الأتراك ساهاك مشاليان، رافضًا ومنكرا الإبادة الجماعية التي لم تتمكن تركيا لأكثر من 100 عام من محو ادلتها.
اليوم يتكلم الأرمن هنا في أميركا وأيضا في لبنان عن قضية التعويضات غير متنبهين أن هذا القرار "يحمل وزناً رمزياً ومعنوياً وسياسياً كبيرا"، ويفتح الباب أيضا أمام المطالب الأرمينية باسترداد حقوقهم خلال العقود الماضية متسائلين هل القرار الأميركي تترتب عليه أية آثار قانونية مباشرة ملزمة على تركيا، تتعلق بتعويضات أو ملاحقات قضائية؟
اليوم بايدن أصبح أول رئيس أميركي يعترف رسميًا بمذبحة الأرمن أثناء حكم الدولة العثمانية على أنها "إبادة جماعية وهو اعتراف، يشير إلى التزام أميركي بحقوق الإنسان العالمية، لكنه في الوقت ذاته يهدد بتزايد التوتر مع تركيا.
موقف الرئيس بايدن يحمل دلالات رمزية وأخلاقية وأدبية، والأهم من ذلك دلالات سياسية مرتبطة بطبيعة العلاقات المتردية بين الولايات المتحدة وتركيا على الدوام ولا أبالغ ان قلت إن الإقرار الأميركي بالمذابح "يحيق خطراً بهيبة الدولة التركية، بل وينتقص من هيبة الدولة، ذلك أنه ومع اعتراف دول وبرلمانات عديدة بجريمة إبادة الأرمن، الذي سبق الإعلان الأميركي، لكن الاعتراف يأتي هنا من قوة عظمى، لها تأثيرها الكبير في العالم كله.
وبالتالي فإن من شأن هذا الإعلان الأميركي أن ينسف أي ادعاءات، أو مزاعم تركية لشرعية أي قضية من القضايا التي أجمع المجتمع الدولي على مخالفتها لمبادئ وقواعد القانون الدولي في هذه القضايا والصراعات مع اليونان وقبرص ومصر والعراق وسوريا والقرن الإفريقي).
واليوم تزحف تركيا كما سمعنا قبل ساعات على لسان مصدر تركي مسؤول لإصلاح العلاقات مع السعودية ومصر بعد إغلاقها بداية هذا الشهر لقنوات الإخوان المسلمين في تركيا.
أخيرا حتى ولو لم يكن لهذا "الإعلان الأميركي أي آثار أو نتائج قانونية مباشرة وملزمة على تركيا، فإنه يحمل وزنا رمزيا ومعنويا كبيرا يتمثل أيضا في تشجيع دول أخرى بأن تحذو حذو الولايات المتحدة، وتعترف بإبادة الأرمن، علاوة على إنشاء حالة من التوافق السياسي والقانوني بين حكومات عديدة بالعالم ضد أردوغان وأجداده الذين ارتكبوا أبشع المجازر بحق الأرمن وغيرهم.