لم يصدر عن مصادر سعودية أي معلومات حول مانشرته الفايننشال تايمز ثم رويترز بعد ذلك عن وجود تواصل بين الرياض وطهران في بغداد.
بالمقابل صدر عن دبلوماسيين إيرانيين سابقين وحاليين ما يلمح للأمر ويشيد بالوساطة العراقية (السفير الإيراني لدى العراق إيراج مسجدي).
وأيا كانت طبيعة هذا التواصل، الذي قيل إنه يجري على مستوى الاستخبارات، فإن الأمر يؤسس لواجهة جديدة من واجهات الصراع بين إيران وجيرانها في الخليج.
بيد أن تأكيد المنابر الإيرانية على إيجابية الحوار مع السعودية والدول المجاورة (المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب) يتناقض مع الطبيعة البنيوية لنظام "الجمهورية الإسلامية".
تعتبر طهران نفسها منبعاً لـ "ثورة" تجاهر بتصديرها، ولا تعتبر نفسها بلدا عاديا يدير علاقاته مع دول الجوار وفق قواعد القانون الدولي وأعراف الجيرة وتقاليدها.
وفي ذاكرة شعوب بلدان مجلس التعاون الخليجي حكايات عن تجارب سوداء مع إيران جرى فيها تهديد أمن هذه البلدان واستقرارها كما وحدة نسيجها الاجتماعي. بكلمة أخرى فإن أي حوار مفترض لا يمكن أن يجري على قاعدة "الأمر الواقع" الإيراني، بل على قاعدة تحول إيراني يكاد يكون مستحيلاً في وقف برامج التخريب والعبث الممنهج داخل دول المنطقة.
ليس بين إيران والسعودية خلافات نمطية كتلك التي تنشب بين الدول حول قضايا الحدود وتقاسم الثروات المتداخلة وحصص التجارة.. إلخ. وبالتالي فإن جدول أعمال أي حوار لن يجد نقاط خلافات ثنائية تنهي التأزم في علاقات البلدين. فالمسألة تتعلق بالنسبة للسعودية بالأمن بمعناه المحلي والإقليمي الكبير، والمسألة تدور بالنسبة لإيران تدور حول كيفية إقرار العالم والمنطقة، وخصوصا السعودية ودول الخليج، ببديهية ونهائية ما أعلنته طهران قبل أعوام من سيطرة على أربع عواصم عربية.
لم تتردد الرياض في فتح أذرعها لأي حوار وانفتاح مع إيران حين أوحى عهدي أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي بجدية الدعوات والرؤى في هذا الصدد. غير أن بنيوية النظام الإيراني، كما أرساه روح الله الخميني، تتأسس على ضرورات الصراع المستمر بصفته الضمانة الوحيدة لديمومة النظام وبقائه وحجته للامتداد داخل دول المنطقة.
في أبجديات نظام الولي الفقيه التدخل في شؤون السعودية والبحرين والكويت وبقية دول الخليج كلما ارتأت حاجة الحاكم في طهران لذلك.
وفي أبجديات ذلك النظام أن يتحول أمن دول الخليج كما أمن دول مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن إلى عدّة شغل داخل أجندة إيران وسياساتها الخارجية.
وفي الأبجديات أيضا بناء برنامجين، نووي وصاروخي، تتم صيانتهما وحمايتهما من خلال السطو على أمن البلدان المجاورة، فيما تستخدم طهران ميليشياتها وجماعاتها ونفوذها داخل تلك البلدان لابتزاز العالم وتحسين شروطها داخل أي اتفاقات تتعلق بالطموحات النووية والصاروخية.
تقوم بنية نظام الولي الفقيه منذ قيامه عام 1979 على قاعدة الهلع الدائم، وأي نزوع نحو السلم والاستقرار والتآلف والتعاون مع دول الجوار من شأنها تهديد قاعدة الهلع هذه، وهي المادة الأساسية لتخصيب النظام وإقناع الإيرانيين بضروراته.
والقاعدة تلك تم تصديرها إلى بلدان النفوذ الإيراني في المنطقة، بحيث باتت الميليشيات التابعة تتولى تحويل العيش اليومي من العراق إلى اليمن مرورا بسوريا ولبنان إلى منصات للتخريب المجتمعي الذاتي، يتم القذف منها لتدمير مجتمعات الآخرين.
تمكنت تقنيات الهلع من تدمير تلك البلدان والفتك بأسس الدولة والترويج لمنطق الميليشيات وحكم الدويلات.
الأمر ليس صدفة بل هو المعادلة الكيميائية للسطوة التي ترومها إيران على دول المنطقة.
ولئن تصارع إيران وتجاري الدول الكبرى، فذلك تمرين تلفق من خلاله الصفقات مع الدول العظمى مقابل الإقرار لها بـ "أمبراطوريتها" المتخيلة الموعودة في المنطقة.
تهدد برامج إيران النووية والصاروخية دول المنطقة قبل أن تهدد دول مجموعة الـ 5+1. وحين تطالب السعودية أو الإمارات أو مصر أو أي دولة عربية أخرى بأن تكون على طاولة المفاوضات المتعلقة بتلك البرامج الخبيثة، تردح إيران برفض ذلك واعتباره محرماً لا مسّ بحرمته. بالمقابل تدعو الواجهات الإيرانية، لا سيما تلك "الحنونة" التي يمثلها رئيس الجمهورية حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف بالحوار مع السعودية داعين إلى قيام نظام أمن إقليمي تُنظّر له بكين بعد موسكو.
والظاهر أن طهران تريد، من خلال حدث الحوار وإشاعاته، شكلا صورياً يقدمها للمجتمع الدولي بثوب حضاري مسالم، دون أي مضمون يوقف الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية من الضرب داخل السعودية ودون تقديم أي جهد من شأنه نزع ألغام الاستقرار داخل دول المنطقة.
قد يكون حوار السعودية وإيران المحتمل ضرورة وربما بديهيا وفق الظروف العادية بين الدول المتجاورة. لكنه بالتزامن مع مفاوضات فيينا وفي غياب أهل المنطقة عن أي اتفاق دولي مع إيران، لن يكون حيّزُه داخل الأجندة الإيرانية إلا خلفيا ثانويا مهما حاول خبراء طهران ومحللوها السياسيين المبالغة في تظهير فضائله.
تعرف طهران ما تريده الرياض. الأمر معلن من قبل السعودية والمنابر العربية منذ سنين. وما هو مطلوب بسيط لا يحتاج إلى جلسات تفاوض. بيد أن إيران التي ترسل للسعودية صواريخ ومسيرات من منصات اليمن وحبوبا مخدرة من منصات لبنان قد يصعب عليها أن تتحول في بغداد، ومن خلال الحوار العتيد، إلى سلوك مخالف لقواعد نصوصها المعادية في المتن والهامش.