القصة الطاغية في السياسة البريطانية هذه الأيام هي ما وصفه حزب العمال المعارض بأنه "عودة حزب المحافظين لممارسة الفساد"، وما وصفته صحيفة "فاينانشيال تايمز" بأنها "رأسمالية المحسوبية".
لكن الحقيقة أن نظام جماعات الضغط (اللوبي) وعلاقة السياسة بالأعمال في بريطانيا ليست بهذا السوء الذي يصوره الإعلام وتصريحات المعارضين النارية، على الأقل هي أكثر "نظافة" بكثير عما هو الحال في الولايات المتحدة مثلا.
بدأت الموجة الحالية الشهر الماضي حين نشرت إحدى الصحف البريطانية أن رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون طلب من وزير الخزانة معاملة تفضيلية لصديقه الأسترالي ليكس جرينسل وشركته المالية.
المثير أن الكشف عن الرسائل النصية بين كاميرون ومسؤولي الحكومة الحاليين جاء بعدما انهارت شركة غرينسل وأصبحت تحت الحراسة.
هذا الأسبوع، تسربت رسائل نصية متبادلة بين رئيس الوزراء بوريس جونسون والملياردير البريطاني جيمس دايسون، الذي مقر شركته سنغافورة لتفادي دفع الضرائب الباهظة في بريطانيا.
وفي الرسائل يعد جونسون رجل الأعمال بحل مشكلة ضرائب موظفي شركته إذا انتقلت إلى بريطانيا. رئيس الوزراء وزعيم حزب المحافظين الحاكم دافع عن موقفه أمام البرلمان. فالرسائل تعود إلى بداية أزمة وباء كورونا حين كانت بريطانيا تسعى بكل السبل لتوفير أجهزة تنفس صناعي لمستشفياتها. وطلب جونسون من السير جيمس أن تصنع شركته تلك الأجهزة – وهي شركة تنتج مكانس كهربائية وأجهزة مماثلة.
لم يكن في الأمر كله نفع شخصي لبوريس جونسون، لكن مسألة تواصله من هاتفه الخاص مع رجل الأعمال والحديث عن "تسهيل" مشكلة ضرائب هي المشكلة.
والضرائب في الغرب، خاصة في دول مثل بريطانيا وأميركا، هي الحقيقة الأكثر تأكيدا بعد الموت. لذا تجدهم يحلفون "بالموت والضرائب"، أي أن ما يحلفون عليه هو الحقيقة. كما ذكر أن المباحث الفيدرالية ظلت تحاول النيل من رجل العصابات الشهير آل كابون في الثلث الأول من القرن الماضي ولم تفلح، رغم عمليات القتل والتهريب التي يديرها. وفي النهاية لم يتهم ويدان ويحكم عليه بالسجن إلا في قضية تهرب من دفع ضرائب.
أما كاميرون، الذي كان زعيما لحزب المحافظين ورئيسا للوزراء قبل تريزا ماي التي خلفها بوريس جونسون، فخطأه على ما يبدو أنه تواصل مع وزير الخزانة ووزراء آخرين بشكل شخصي و"ليس من خلال القنوات الرسمية التقليدية". ففي النهاية يعمل كاميرون مستشارا لشركة جرينسل، ليس هناك ما يمنع من ذلك.
لكن ما ضاعف من الأزمة، أن وسائل الإعلام بدأت "النبش" في موضوع غرينسل خاصة والشركة تنهار وهناك انكشاف لبنوك ومستثمرين بمليارات الدولارات على خسائرها.
وتبين أن عددا من المسؤولين في الحكومة تولوا وظائف في جرينسل بينما هم على رأس عملهم في مكتب رئاسة الوزراء. ومرة أخرى، يمكن لمن يعملون بصفة مستشارين في الحكومة أو في وظائف ليست بدوام كامل أن يعملوا في القطاع الخاص. لكن ذلك يتطلب إذنا من الحكومة، يون الحصول عليه روتينيا طالما ليس هناك "تعارض مصالح" بين الوظيفة الحكومية والوظيفة الخاصة.
الواقع، أن القانون يحكم الكثير من تلك الأمور في بريطانيا. لكن المشكلة سياسية بالأساس، فحزب المحافظين معروف بأنه حزب رجال المال والأعمال ونهجه السياسي المعلن لصالح خفض الضرائب وتقليل الاجراءات الحكومية التي قد تحد من نشاط المالي والأعمال. وهذا ما يوفر للمعارضة، خاصة اليسارية منها، ذخيرة لشن حملة ضد ما ترى أنه "فساد مقنن" في ظل حكم المحافظين.
وزاد من سخونة الأمر أنه يأتي مباشرة بعد فترة من حكم الجمهوريين في أميركا وفجاجة الرئيس الأميركي السابق فيما يتعلق بتهم الفساد ومحاباة رجال المال والأعمال.
لكن، مرة أخرى، ليس ذلك قاصرا على أميركا ومثيلاتها ولا حتى على اليمين السياسي في الديموقراطيات التقليدية. فنظرة العالم لما يعتبر "فسادا" أو "محسوبية" تتغير.
خذ اليابان كمثال، حيث كانت مجرد شبهة فساد تجعل من تطاله ينتحر وليس فقط يتخلى عن منصبه. أما الآن، فلم يعد الانتحار شائعا كما كان قبل عقود قليلة. بل إنه في بعض البلدان، وحتى الديمقراطية منها، أصبح السياسيون وغيرهم يتبجحون في الدفاع وتبرير ما قد يحمل شبهة فساد أو غيره. هناك تغيير "أخلاقي" و"قيمي" تمر به البشرية منذ نهاية القرن الماضي – ولا يعني ذلك أنه صح أو غلط، إنما يعتمد الأمر على زاوية نظرك لهذا التغيير.
إنما في النهاية، تظل بريطانيا من دول العالم القليلة التي بها "قانون ونظام". ويبقى احترام القانون وأن الكل سواسية أمامه ركيزة أساسية للسياسة البريطانية، حتى رغم التراجع الذي أصاب "النظام" كما هو الحال مع كل شيء في العالم في القرن الحادي والعشرين.