أثار عرض نقل المومياوات الملكية في مصر من المتحف المصري في ميدان التحرير إلى المتحف القومي للحضارة المصرية في الفسطاط جدلا واسعا في مصر. وهذا طبيعي، فالحدث كان رائعا ومبهرا وتميز بابداع فني مصري كاد المرء ينسى أن مصر تنتج مثله.

كان طبيعيا مع فرحة أغلب المصريين أن تجد ذلك ينغص على البعض، خاصة الإخوان والإرهابيين ومن يتعاطف معهم. لكن الجدل امتد ليتجاوز هؤلاء ولتثور قضايا أخرى غير "نقل جثث الموتى" والتمسح في ملوك مصر القدماء باعتبارهم "كفرة" في نظر المتشددين.

والحقيقة أن الأغلبية من فرحتها دفعت بالبعض منها للمغالاة في الأمر بدلا من الدعوة للبناء عليه والإجادة في كل ما يفعله المصريون من فن وإعلام وغيره من صنوف الإبداع.

ومن أشكال المغالاة، دعوات للعودة للغة الهيروغليفية والتركيز على هوية مصر "الفرعونية".

وبغض النظر عما في ذلك من مغالاة، يمكن تفهمه على أنه رد فعل عكسي على مقولات الحقد والكراهية التي يروجها الإخوان ومواليهم.

صحيح أن مسألة الهوية مسألة مهمة، لكن من الصعب في القرن الحادي والعشرين الحديث عن هويات وطنية خالصة، ناهيك عن أن مثل تلك التوجهات تقود إلى تعصب قد ينتهي بشيوع العنصرية التي تتعرض مع كل ما هو إنساني وكذلك مع تراث وتاريخ مصر على مر القرون. حتى لو كانت الدعوة لتعزيز الهوية الفرعونية لمصر هو رد فعل على اتجاه ظلامي يشوه الدين والعروبة، فهذا أمر يحتاج لتناوله بما يستحق.

أولا، من الصعب الآن الحديث عن هوية عرقية خالصة وإلا فإن ذلك يعني أن نضال الإنسانية ضد النازية والفاشية التي روجت لتسيد الجنس الآري الأبيض قد ضاع هباءا.

ويكفينا أنه ما زالت هناك جماعات هامشية صغيرة في العالم، تشبه الإخوان وأمثالهم، تتبنى تلك الرؤى العنصرية سواء سميت "يمين متطرف" أو "نازيين جدد" أو "سيادة البيض" أو غير ذلك.

هذا من ناحية العرق و"العنصر". وبالتأكيد فإن شعب مصر به من أصله الفرعوني والقبطي والعربي الكثير مما لا يزال مستمرا في أجياله.

ولأن مصر منذ آلاف السنين حضارة مستقرة، بغض النظر عن عصور القوة والضعف المتتالية، فهي تعد "بوتقة" لصهر الأعراق والأجناس وصبغ من يقيمون على أرضها في النهاية بصبغة "مصرية". لا غضاضة إطلاقا في التوسع في دراسة التاريخ المصري القديم وتعلم الهيروغليفية لمن يدرسون النقوش والبرديات. وبالمناسبة، فتلك اللغة مستمرة بشكل أو بآخر في اللغة القبطية التي تسمعها أحيانا من رجال الدين المسيحيين في مصر.

لكن نفي العناصر الأخرى التي ساهمت في تشكيل الشخصية المصرية على مر العصور أم يتجاوز حدود الشطط. ولا أتصور أنه من الممكن "إلغاء" المكون العربي في الشخصية المصرية بمجرد رد فعل انفعالي ممن يتصدون للسفه الإخواني. فالوجود العربي في مصر، وسمه ما شئت: فتح أو غزو .. إلخ، يعود إلى ما قبل الإسلام كما يروي البعض في صعيد مصر عن حركة قبائل شبه الجزيرة عبر البحر.

وربما كان من مميزات "الهوية" المصرية أنها صهرت كل تلك الهجرات والتفاعلات الإنسانية في بوتقتها دون أن يعني ذلك ضعف تأثير أصولها الفرعونية والقبطية. وهذا هو الحال دوما مع المجتمعات الراسخة أنها تقبل رفد مكوناتها بما هو خارجي دون قلق على ضياع شخصيتها الوطنية.

كل ذلك فيما يخص الهوية على أساس العرق أو الجنس أو العنصر. أما الهوية الوطنية فمفهومها الحديث والمعاصر يستند إلى عوامل أخرى أظن أنها تعزز شخصية مصر العربية والإسلامية دون انتقاص من هويتها التاريخية الفرعونية والقبطية.

ليس الغرض هنا المفاضلة بين "هويتين" أو عدة "هويات"، إنما هو تأكيد على أن هوية مصر التاريخية مكون أصيل من مكونات شخصيتها الحالية بكل عناصرها منذ ما قبل التاريخ حى الآن. وربما من المهم الإشارة إلى أن الحديث عن المكونات يتجاوز فترات الاحتلال، فمصر التي احتلها العثمانيون والفرنسيس والإنجليز لم تصبح "أفرنجية"، حتى وإن تركت فترات الاحتلال الطويلة تلك بعض الملامح لكن تكوين الشخصية المصرية الأصلي والأصيل يظل هو الطاغي.

وفي النهاية، يمكن القول حتى أن الهوية الوطنية بمفهومها الحديث والمعاصر تعرض لهزة قوية الآن. فالأجيال الجديدة، من جيل الألفية (الملينيالز) وما بعده، لا تشعر كثيرا بتلك الهويات الوطنية وإنما تميل أكثر إلى ما يمكن وصفه بأنه "هوية عالمية" نتيجة التطورات الهائلة التي شهدتها البشرية في العقود القليلة الأخيرة.

ومرة أخرى، لا يعني ذلك التقليل من أهمية العودة للتاريخ لاستشراف المستقبل والبحث عن المكونات الأصلية للجماعة البشرية في موقع جغرافي محدد. وفي النهاية كما يقول المثل "اللي ما له أصل بيحاول يشتري أصل"، والأصول في مصر وفيرة وقوية وحاضرة.