ما تزال وجهات نظر عريضة بعالمنا العربي تعتبر أن صمَّام الأمان الاجتماعي، إنما يكمن في حصول الفرد على وظيفة ضمن الدولة، فالعمل حينئذ سيكون مضمونا من حيث الاحتياط الاجتماعي، وكذا من حيث ضوابط الفصل والطرد الضبابية أصلا، فضلا عن ضعف الرقابة على الموظف، وهو ما يجعل الفرد مرتاحا من "استقرار" وظيفي، غير مشروط بأي إنتاجية، ولا يهم إن كان يحد من الطموح، مادام يأتي بـ"المُحترمية الاجتماعية" في الآن ذاته.
تلك هي المعضلة التي تقف وراء الميول التفضيلية للمواطن العربي اتجاه مناصب الشغل العمومية، قياسا إلى ما يجده في بنيات التشغيل ضمن القوالب المهنية للقطاع الخاص، من رقابة مشددة على الأداء والإنتاجية، ومحاسبة دقيقة فيما يتصل بالسلوكيات المهنية، علاوة على توسيع هواش صلاحيات رب العمل حينما يتعلق الأمر بالفصل عن العمل، وهذا يحدث في أحسن الأحوال، إذا اختار المشغل والأجير أن ينضبطا للقوانين المعمول بها، وإلا فإن حاجة الأجير ومصلحة المشغل قد تجعلان العلاقات التعاقدية أقرب إلى أعمال "السخرة" منها إلى علاقات عمل إنتاجية عقلانية.
ولذلك فإنه من المهم قرْنُ أي حديث عن التنمية الاجتماعية في العديد من البلدان العربية بإصلاح قوانين الشغل، سواء في القطاع العام أو الخاص، باستحضار ما يقتضيه ذلك من تحسين لشروط التعاقد على النحو الذي يحفظ مصلحة الموظف والأجير، وفي الآن نفسه يقوي آليات الرقابة الموضوعة في يد المشغل، سواء أكان مستثمرا في القطاع الخاص يعمل من أجل ربحه هو، أو مديرا يُشرف على مرفق عمومي لا يهدف إلى الربح إلا بالقدر الذي يضمن ديمومة المرفق العمومي إياه.
غير أن البعد الآخر للمسألة يتبدى في الطريقة التي تتأول بها الثقافة المجتمعية لدينا مفهوم "الإنتاجية"، حيث أن ربطها بتواجد العاملين في مكان ما يكاد يكون هو المبدأ الناظم لمنطقي التقييم والرقابة، سواء تعلق الأمر بالأنشطة الإنتاجية التي تشترط بالضرورة أن يتواجد العامل أو الأجير أو الموظف في مكان واحد مع مواده الأولية وأدوات العمل، أو حينما يتعلق الأمر بالمهن المستجدة والمتطورة، والتي لا حاجة لجمع الموظفين فيها داخل مكان واحد إلا لإجراء اجتماع أو تدريب، بل إن بعض قطاعات المجال العام بات مستقرا في اعتقاد مدرائها أن لا أهمية للإنتاج والمردودية بقدر الحضور الجسدي للأجير!!.
فليس غريبا إذن أن يُفضي وضع كهذا إلى تدني نسب الإنتاجية في وطننا العربي، حيث بلغت بحسب بعض الإحصائيات معدلا لا يزيد عن خمس وعشرين دقيقة في اليوم للموظف الواحد، لاسيما في القطاع العام، تزامنا مع الإلزام بالتواجد في المكاتب والورشات. وحينما يتعلق الأمر يتعلق بالقطاعات الصناعية والزراعية، فإن الوضع أيضا ليس بأفضل حال، بقدر ما ليس مهما في الأجير والعامل والموظف سوى الالتزام الشكلي بضوابط لعب دور "العمل بجدية" أمام المسؤولين، في متلازمة تفصح عن مشكل سوسيوثقافي عميق.
ومن ناحية ثانية، فإن نمط الاقتصاد الريعي الذي ما يزال مسيطرا في الكثير من البلدان العربية، وإن بنسب متفاوتة، إنما يكرس الواقع المشار إليه، من بوابة ما أفضى إليه فشل مشاريع التأميم التي ذهبت إليها البلدان العربية التي وقعت خلال الخمسينيات والستينيات في آتون التجارب الاشتراكية، من ناحية، وتسييد أشكال الإنتاج الاقتصادي، إن في الصناعة أو الزراعة أو الخدمات، الذي يقوم وجودا وعدما على إثقال كاهل الدولة، من ناحية ثانية. وهما السببان اللذان جعلا عملية التنمية برمتها في الكثير من بلداننا تكون معاقة، وبدل أن ينتج الاقتصاد ويراكم الثروة، وتستفيد الدولة من الضرائب لقاء الإدارة والأمن اللذان توفرهما، وينتعش بذلك المجتمع ويقضي على البطالة، صارت الدولة تتحمل كل التبعات، وفي مقدمتها بات أن شغل المناصب ضمن أجهزتها هي "الغنيمة الكبرى".
ولعل الناظر اليوم إلى جموع المحتجين من أجل التوظيف المباشر في المؤسسات العمومية بالمغرب، على سبيل المثال، مستفيدين طبعا من سقف حريات التعبير العالي الذي تنعم به البلاد، يعيد إلى الأذهان ما كان قد أشار إليه باستفاضة المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، لدى حديثه عن "الغنيمة" كأحد المحددات الأساسية للعقل السياسي العربي، داعيا إلى ملحاحية تبني نموذج اقتصادي عقلاني وعصري لتجاوز عقبة كأداء كتلك.
فالمشكل الحقيقي يكمن في أن الشباب، وبصرف النظر عن النظرة الخاطئة إلى مكاسب المكوث في تلافيف الريع الوظيفي، فإنهم إنما يهربون من رمضاء عقود القطاع الخاص المجحفة، أو البطالة المقيتة، إلى نار الوظيفة العمومية، والتي يحسبونها نعيما، ليكتشفوا بعد مرور سنوات العمر أن ذلك الخيار لم يكن في الحقيقة سوى إقبار للطاقات والأفكار والمبادرات التي لو تم تحريرها لكان الحال غير الحال، لاسيما وبلد كالمغرب يشهد تحولات اقتصادية واعدة وضخمة، تضعه في ذروة الصعود الريادي الاقتصادي القاري والعربي، ما يضع على عاتق الشباب مسؤولية المواكبة والانطلاق.
ثمة إذن رواسب ثقافية اجتماعية تسعى إلى فعل أي شيء لتأبيد الريع الوظيفي، في عدد من دول العالم العربي، فيما تضرب دول الخليج العربي، وفي مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة، المثال على أن الاقتصاد العربي ينبغي أن ينطلق أولا من فلسفة تجعل الدولة قادرة على ضبط التوازن بين رغبات الأفراد التي تدور وجودا وعدما على البحث عن الإحساس بالأمان الاجتماعي، وبين روح الابتكار والإبداع في عوالم المال والأعمال والتكنولوجيا، فضلا عن ترسيخ التعاون والتكامل بين جناحي العالم العربي في المشرق والمغرب، وذلك هو صمام الأمان الحقيقي الذي سيضمن مراكمة المزيد من الثروة التي تنهي الريع وتحرر مبادرات الإنسان.