أحدث الجبهات السياسية المكونة في الداخل السوري، المُسماة بـ"الجبهة الوطنية الديمقراطية – جود"، تُقدم نموذجاً جديداً على مستوى الاستعصاء السياسي المُر الذي تُعانيه المسألة السورية.

فالقوى المُشكلة لهذا التنظيم أينما كانت سابقاً جزء من تشكيلات سياسية أخرى، جربت أشكال معارضتها و"نضالها" السياسي المناهض للنظام السوري، دون أية نتيجة. كذلك كانت متآلفة فيما بينها في تنظيمات واحدة، لم تلبث أن فككت تنظيماتها، وتسعى راهناً إلى إعادة تشكيل تنظيمات ائتلافية من جديد. 

مجموع الأحزاب السياسية المُكونة لهذا التشكيل السياسي، والتي تضم عددا من الأحزاب المعارضة التقليدية، مثل حزب الاتحاد الاشتراكي "الناصري" المُعارض، وتيارات وكوادر من التنظيمات اليسارية، مع أحزاب كردية كانت من قِبل جزءا من المعارضة الداخلية السورية، ومعها بعض التنظيمات ذات "الخطابات الشبابية التحديثية"، أي أن هذه القوى السياسية ذات تجارب لا تُحصى من النضال السلمي الداخلي، لخلق مساحة ما من الفاعلية السياسية في المشهد السوري، ولو بنسبية بالغة، لإنهاء الحرب السورية واجتراح مشهد داخلي، لكن دون أن تتوصل إلى نتيجة، ولو بالحد الأدنى.

في فاعليتها هذه، إنما تتجاهل هذه القوى السياسية السورية أربع حقائق سورية جوهرية، صارت من شدة وضوحها وكثافة حضور دورها في المشهد السوري عاملاً تأسيسياً في الحياة السياسية السورية، ومن دون الانتباه إليها ومراعاتها، سيكون أي فعل سياسي مجرد مخادعة سياسية للذات.

فسوريا اليوم هي أرض حرب أهلية مفتوحة، يُمارس فيه المتنافسون صراعاتهم بعنف استثنائي، عبر الصواريخ والمجازر والتغيير الديموغرافي، لو تطلب الأمر. فسوريا اليوم، ومثل كل الكيانات التي تشهد صراعات حربية داخلية مديدة، لا يُمكن للسياسة أن تأخذ مساحتها ودورها قبل قرار أولي من قِبل المتحاربين بعدم جدوى الحرب المفتوحة إلى ما لا نهاية، والنزوع نحو حلول سياسية توافقية فيما بينهما، وهو أمر ليست له أي دلائل في المشهد الحربي السوري، الذي يغرق في بحر من الدماء.

المسألة الأخرى تتعلق بخارجية الصراع والحرب على وفي سوريا. فالسوريون اليوم، خاصة قواهم السياسية المدنية، ليست لهم أي طاقة وحظ للتأثير في المشهد السوري، لأن القوى الإقليمية المؤثرة والفاعلة في الحرب السورية، إنما أسست واخترعت أحزابها وقواها السورية، لو صح التعبير. فالقوى السياسية التي يُمكن أن يكون لها تأثير، هي تلك التي تلعب كامتدادات للدول الإقليمية والدولية، بما في ذلك النظام السوري نفسه. أكثر من ست سنوات من المفاوضات بين النظام السوري والائتلاف والهيئة العليا للمفاوضات المُعارضة، تثبت أن تلك المفاوضات إنما هي مُجرد واجهة لحوارات ومزاحمات القوى الإقليمية.

إلى جانب الأمرين السابقين، فإن مثل هذه التشكيلات السياسية السورية، مثل غيرها الكثيرة التي تشكلت وما تزال بأعداد كثيفة طوال السنوات الماضية، تتجاهل حقيقة أن الحالة السورية تحتاج إلى حلول جذرية، مثل إعادة تشكيل الجيش وشكل النظام السياسي في البلاد وحقوق الجماعات الأهلية وفتح الحياة السياسية والحريات السياسية في البلاد، الأمر الذي سيؤدي حتماً لفتح الأرشيف والتحقيق فيما أُرتكب من جرائم ومحاسبة المسؤولين عنها، وهي قضايا جذرية وشبه إطلاقية، تحتاج إلى أبعد من الدعوات والخطابات المشذبة الداعية إلى الحوار والوحدة الوطنية والمطالبة بالدولة الديمقراطية المدنية. فهذه القضايا والمُنتجات السياسية، إنما تكون محصلة وبعد تاريخ مديد من التفاهمات وفتح الحياة السياسية، وطبعاً بعد إنهاء الحرب بتوافق إقليمي ودولي وداخلي.

أخيراً، هذه القوى المتآلفة، لا تُقدم جواباً مُقنعاً عن أسباب تفكيكيها لتنظيماتها الأم، التي كانت مظلة أكبر وأكثر قابلية لخلق التحشيد والمؤازرة والفاعلية!، ثم أتت بعد عمليات التفكيك تلك لتحاول خلق تنظيمات توحيدية جديدة، ودون أية حوامل ومضامين جديدة، مختلفة عما كانت تحمله من قِبل. وفوق ذلك فإنها تعد وتتوقع وتجترح رؤى وفاعليات ومؤثرات سياسية جديدة.

يستحق ملايين السوريين أشكالا لا منتهية من المؤازرة والمساعدة في محنتهم الطويلة هذه، التي أطاحت بحاضرهم ومستقبلهم، لكنهم لا يستحقون أن يُوهمَهم أي واحد بأن شيئاً ما يحدث، شيء قد يؤثر في أحوالهم نحو الأفضل، لكن دون أن يكون هذا الشيء حقيقياً، بل مجرد إعادة ترتيب للعلاقات والخطابات والتحركات التقليدية، التي جربت كل ما تحاول أن تجربه من جديد، دون أن تتوصل إلى أي نتيجة، ودون أن تُقدم أي شيء جديد.