"إنّي أغار على القديم أن يراه المحدث".. (أبو بكر الشبلي)

اللغة مستودع لذخيرة مطلسمة، التفرّغ لاستخراج كنوزها يستدعي استنفاراً يفوق الانضباط الذي يجب أن نتحلّى به عند التخطيط لغزوة. وما هو تحرير المفاهيم من أشراك اللسان إن لم يكن مغامرة لا تختلف عن المعركة الحربية، كل ما هنالك أن الثمن في الحرب نزيف دم، والنزال في غزوة اللغة نزيف روح؟

فعندما يتنازل لسانٌ شجاعٌ، يعتنق الرحيل ديناً، كلسان الطوارق، فينعت سيرورة وجودية كـ "العُمر" بمفردة، تبدو بريئة لأوّل وهلة مثل "تيغرّاس"، فإنّ الدُّهاة الذين يرجع لهم الفضل في سَنّ قوانين هذا اللسان يوماً، سوف لن يغفروا لنا الاكتفاء بهذا المعنى، لأن الدلالة الحقيقية إنّما تسكن بُعداً أبعد منالاً تخفيه المفردة في الترجمة الحرفية.

فالكلمة اسم مستعار من فعل "يغرس"، الدالّ حرفيّاً على "جرّ النصل على رقبة، سواء أكانت رقبة إنسان، أم رقبة حيوان"، لتستعير العربية من هذا المبدأ الطقسي، ذي المدلول الديني فعل الطعن في جسدٍ مّا، بأداةٍ مّا، حادّة عادةً، ترجمة لنيّة في القيام بعدوان، يلحق الضرر بكيان قائم، ليس معادياً بالضرورة، كما هو معتمد في أدبيات مسلكنا اليوم، دون أن ينفي عنه طبيعة العدوان، كما هو معبّر عنه في عبارة "غرس شتلة نخيل"، بمعنى استنبات شجرة، كفعلٍ لا يتحقّق بدون توجيه طعنات موجعة لجرم أرضٍ هي، بمنطق الإنسان الطبيعي، أُمٌّ، لإجبارها على قبول جنين في حضنها، نريد لها أن تحنو عليه بالإنابة عنّا، لكي نقتات على ثماره عندما يترعرع! وهو ما يعني، في الصيغة العربية، بأننا نمارس الطعن (نغرس) لكي ننتزع لأنفسنا نفعاً. أي أننا نمارس أنانيّتنا. وأن نمارس أنانيّةً، فهذا يعني أننا نقترف إثماً؛ لأن إلحاق الضرر في سبيل تحقيق كسبٍ نفعيّ، هو دوماً تجديفٌ في حقّ قدس أقداس. ولكن المثير للفضول حقّاً هو الموقف من المفردة في بُعْد المدلول البدئيّ، المعتمد في لسان أمّة الصحراء الكبرى، التي لا تتردّد في أن تبثّ مفهوماً معاكساً تماماً في "يغرس"، للبرهنة على رحلة نسمّيها في العربية عُمراً، ولكنها تنوء في الأصل بحمولة جسيمة هي: القربان. وهو ما لم يكن ليحدث لولا تلبية نداء الانتماء إلى تلك الهويّة الزهدية التي شطرت القبيلة البشرية يوماً إلى قطبين: قطب رحيل، وقطب حلول، قطب بريّ، وقطب حضري. وبرغم انتماء كلا اللغتين إلى أرومة العقيدة المرتحلة، بيد أن العربية اختارت، لسببٍ مّا، اعتماد المفهوم الدنيوي، النفعي، لمفردة الـ"غرس"، ليدلّ على فعلٍ عدوانيّ، يبتغي من وراء الطعن نفعاً حرفياً، ليختار لمسيرة وجودية مختطّة بحبر الزمن اسم "عُمر"، الدال هنا على فعلٍ يناسب مَن قرر أن يتنصّل من العهد المبرم مع الحرية، ليسلّم زمام الأمر لمكانٍ، هو منذ الآن، عمران؛ عمرانٌ مستعارٌ من هبة لا تتكرّر هي الـ"عمر". ولكن أليس وجود الإنسان على هذه الأرض أيضاً غرس: الغرس بمعنى الاستنبات، الحامل لمبدأ الإعمار، بحيث الإنسان يفني عمره كلّه في الاستزراع؛ استزراع القيم الإلهيّة، التي نصّبها عرّاب العقل البشري "عمانويل كانط" في حياتنا بعبعاً، أطلق عليه اسم الواجب، بدل الطمع في سعادة هي باطل أباطيل بغياب الإيمان بهذا الواجب؟

ولكن المفارقة أن الإنسان الحضري، الذي استجار بالعمران، لكي يهب وجوده معنى، باحتراف إفناء هبة نفيسة كـ العمر، في عملٍ نبيلٍ كـ الإعمار، هو من خان عهد الـ غرس، الدال أصلاً على مفهوم جليل كالتضحية، ليغرس فيه مدلولاً مغايراً هو الفوز بمزيد النفع؟

"أدّارَن ويلنين أولّي د مناس

أدّارَن ويوَرنلي آر تيغرّاس

الدونيا ورتموس آر تيكرّاس

أحياءٌ أولئك الذين يملكون قطعان الإبل

أحياءٌ أولئك الذين لا يملكون سوى القرابين

لأن دنيانا لم تكن يوماً سوى خداع!

هكذا تغنّى شاعر الأمّة الحكيم، معبّراً على روح أمّةٍ لم تعتمد اللثام قناعاً إلاّ لتواري وجهها خجلاً من وجودٍ اكتشفت كم هو خدعة!

ولهذا السبب اعتنقت دين الرحيل في محاولة للسير في ركاب حرية هي العزاء الوحيد في محنة الحضور قيد المهزلة، دون أن تتخلّى عن ناموسٍ صار، في السيرورة، للقوم هويّة بديلة للهوية الدنيوية، وهو: القربان!

فالشهوة إلى الملكية التي أطاحت بكبرياء الفريق الآخر، الذي استسلم للإغواء، وركن إلى الوتد، إلى العبودية، إلى الأرض، هي الخطيئة التي شاء صاحب الرحيل أن يتطهّر من دنسها، فاختار أن يحترف القربنة، ويضحّي لا بالأنعام وحسب، ولكن ليحوّل نفسه، ليحوّل عمره كلّه (تيغرّاس)، إلى قربان قائم، موصول، بدايةً بالمهد، ونهايةً باللحد، كي يحقق بهذه البطولة، الانتماء إلى "القبيلة الإلهيّة"، بشهادة قدّيس في مقام أوغسطين، لأن الإيمان الحقّ ليس في الاكتفاء بممارسة الشعائر، ليس في الاكتفاء بنحر القرابين استجداءً لمرضاة الألوهة، ولكن القياس في معادلة الإيمان يكمن في القبول بقدر القربان، في القبول بتقديم الروح، المعبّر عنها في مفردة "تيغرّاس"، الدالّة على رحلة العمر كلّه، كفداء، انتصاراً لحقيقة لا وجود لها إلاّ في المنيّة، وتحقيقاً لغلبة على باطل هو خدعة!

هذا الموقف من المغامرة الوجودية الذي يرى في العمر مجرد نحرٍ لابدّ أن يُتوّج بتخلٍّ، أو ما اعتدنا أن نسمّيه انتحاراً، هو ما استنزل في سيرة هذه الأمّة القناعة بكونها مجرد ظلال تسعى في صحراء الأبد، مجرد أرواح تتنكّر في أجرام، مجرد أطياف في واقعٍ الأسلاف فيه أصحاب أرض، وما هم في مهزلة الخدعة سوى أضيافٌ طارئة. موقف عدميّ ينمّ عن سخرية مريرة في العلاقة مع الوجود، وإيماءً يترجم تحدّياً مخيفاً، موجّهاً لجناب القدر، لا يليق إلاّ بعرّاب تنويرٍ في مقام وليم شكسبير، وربما بخليفته المجيد وليم فوكنر.

هذا التسليم المطلق بوجوب اعتناق دين القربان، هو الحجّة التي استخدمها العالم عبر العصور، لإبادة هذه الأمّة الشقيّة، ولم يكفّ عن عمل كل ما بالوسع لكي يقطع دابرها من خارطة هذا الوجود حرفيّاً، لا مجازيّاً؛ كأنّ لسان حال هذا العالم القبيح يأبى إلاّ أن يعجّل بزوالها، لأن مجرد بقائها قيد الواقع هو بمثابة تحدٍّ للعالم، بما هو اعترافٌ بوجود أعراض لمرض بطله الضمير، وإلاّ ماذا يعني أن يقيم العالم الدنيا معلناً حال الطوارئ تضامناً مع "الإيغور" الذين يتعرضون للاضطهاد في الصين، أو تعاطفاً مع اضطهاد الروهينغا في ميانمار، أو استنكاراً لاشتباهٍ في قمع أقليّة قبلية في أدغال إفريقيا، في حين يلزم الصمت أمام مذابح التطهير العرقي الممنهج ضدّ طوارق الصحراء الكبرى، مراراً، آخرها ما وردنا بالأمس فقط من قيام مفارز القتلة العنصرية في "النيجر" بالهجمة الهمجيّة على مضارب هذه الأمّة الشقيّة، ليتمّ نحر مئات الأبرياء العُزّل من نساء وأطفال، وأشياخ في ليلة؟

ألن يعني هذا الموقف المعادي من آخر فلول هذه القبيلة الإلهيّة الوفيّة لعقليّة الإنسان البرّي، بمثابة ترجمة فاجعة لموقف سلفها قابيل من قطبٍ هو، بالهويّة، السليل الروحي لأول شهيد في التاريخ وهو الضحيّة هابيل؟

فليس عبثاً أن ينعت القديس، منذ ألف وستمائة عام، ذريّة هذا الفلّاح باسم "القبيلة الدنيوية"، لأنها ارتضت المكان مقاماً، لتناصب القطب الراحل العداء، الذي صار في مسلكها ناموساً، لتورّث هذه النزعة المميتة لأخلافٍ هم اليوم أبناء عمران، وسادةٌ، هم المهيمنون على سلطان هذا العالم. فبأيّ حقّ يدهشنا أن نكون شهوداً اليوم على إفلاس عالمنا أخلاقياً، إذا كان التوازن بين القطبين الأزليين، المبثوث في صيغة إنسانٍ برّي، بريء، وآخر حضري، جريء، قد انهار بغياب القطب الأوّل، الحامل للواء الوحي النبويّ، المسكون بالامتلاء، لنجني أخيراً الخواء الروحي، في ظلّ انفراد الشقّ الدنيوي بغنيمة هي الوجود؟

إضافة:

الأغلبية، في عالم الحداثة، تجهل أن اسم قارّة كإفريقيا، إنّما هو استعارة من لسان هذه الأمّة البريّة التي تُمارَس اليوم في حقّها صنوف القمع، بل وأجناس الإبادة الممنهجة. فـ Africa اشتقاقٌ من اسم دالّ، في الليبيّة القديمة، على: الفسحة، الفضاء البرّي، أي الصحراء، من منطوق: آفرا (Afra)، لتكون هذه الأرجوحة الجغرافية السخيّة وطناً أوجد نواة المعجزة الميثولوجية المسمّاة إنساناً، لتغدو هذه الساحة القدسية مسقط رأس الجنس البشري كلّه، كما برهنت الأبحاث والاكتشافات والعلوم منذ أقدم العصور، لتصبح في واقع حاضرنا العلمي مسلّمةً. والأمّة الوحيدة التي اعترفت لليبيين بهذا الفضل هي أمّة اليونان، التي تغنّى عرّاب حضارتها، وسادن حرم تاريخ الإنسانية كلّها هيرودوت، بريادة ليبيا في استطلاع أحجية الوجود الإنساني، لتكون المستودع الذي نهلت منه الحضارة اليونانية كل ذخيرتها، بدايةً بآلهاتها، ونهايةً بعاداتها، مروراً بتقنيات واقع حياتها اليومية، لتبقى هذه الحقيقة رهينة دفينة في محيط رمال الصحراء الكبرى، لا لشيء إلاّ لأن أحفاد قدماء الليبيين (كما هم طوارق اليوم) اختاروا المقام في رحاب هذا العدم (أو ما نحسبه عدماً بمنطق الإنسان الحضري) إرواءً لظمأهم الخالد للحرية، ليجيروا، بهذا الاغتراب التراجيدي، لغز التكوين، وسرّ أطلانطيدا، المحتجب بعيداً في باطن عضلة جسيمة سمّيت لساناً، لم تكن الحكمة لتنصّبها على الوجود برهاناً لو لم تعترف بها رديفاً للوجود برمّته. وليس لمن خامره شكٌّ إلاّ أن يستجير بموسوعتنا "بيان في لغة اللاهوت" بأجزائها السبعة، الصادرة منذ ما يربو على الربع قرن. وأن يكون الفوز بتسمية القارّة من نصيب قدماء الليبيين فأمرٌ طبيعي، لأن الأسماء لا تُطلق جزافاً في العادة، ولكنها رهينة سبب، حُجّة، علامة فارقة. وعلّ تصحّر القارّة، على هذا النحو العصيّ، ذريعة كافية لانتحال الصفة التي كانت علّة هذا الاغتراب البيئيّ، الدراميّ الفاتن، القرين لكل شيخوخة. لماذا تفتننا الشيخوخة إجمالاً؟

لأن الشيخوخة شهادةٌ على فوزٍ بقصب سبق. شهادةٌ على حضورٍ في الزمن الضائع. الشيخوخة شاهد عيانٍ على حدثٍ جلل، وهو في حال مجال طبيعيٍّ كاليابسة مثير للفضول ألف مرّة، لأن توقنا إلى طينة التكوين حمّى غيبيّة في طبعنا، والمكان الذي شاخ أوّلاً هو المؤهّل لأن يحمل بصمة اللمسة السحرية أوّلاً، المسّ الألوهي البتول، الذي فجّر في الطينة روحاً، لتتحوّل سلطة الكلمة جسداً. فالوقوف على حقيقة أية واقعة عملٌ يستوجب استحضار شهود. وشاهد الزمن في شأن الكينونة هو الطبيعة، وشيخوخة الطبيعة، في بُعدها كصحراء أقوى شهادة على أسبقيّتها، أقوى حجّة على أزليّتها، ولا ينافسها في هذه الأسبقيّة سوى الغمر، الذي لم تكن الصحراء لتكون أصلاً لو لم ينحسر ليُفسح لها مجالاً هو اليابسة. ولهذا السبب في البدء كان الموقع الذي برز من سطح الغمر مسقط رأس الوجود، ليكون أوّل موقعٍ يشيخ أيضاً في يبيس القارّات، التي لم تولد من بطن الغمر إلاّ تالياً. وعندما تخلع اللغات المنبثقة عن اللسان اللاتيني اسم الصحراء في مفردة: desert، فإنّما تستعير هذا الشرف من اللغتين البدئيتين الشقيقتين (المصرية والليبية القديمتين) المنطوق بـ دشرت المصرية، المحوّرة في الليبية في وشرت، التي ما تزال تجري في لغة الأحفاد اليوم بالمنطوق ذاته، للتدليل على الشيخوخة. ونلاحظ كيف تصف الهيروغليفية الرجل الأصلع بـ: وشّر بحذف التاء في حال المذكّر، وهو المدلول المتداول في اللسان الليبي كشهادة على الشيخوخة.

فكما اعتدنا أن نلجأ للأشياخ في طلب الحكمة، كذلك ليس لنا إلاّ أن نستجير بالصحراء في طلب الحقيقة، لأنها شاهد العيان الوحيد المفوّض بحكم القدمة، بحكم الانتماء إلى معبد الزمن الضائع.

الصحراء، بحكم الشيخوخة، هي الشهادة الأخيرة في حقّ الوجود في بُعْد المستحدث. وإنسانها أجدر الكائنات بأن ينال عنايتنا، فنعمل كل ما بالوسع كي نحتفظ به في المتحف، حرصاً عليه من التلف!

فأهل الصحراء وحدهم الأطياف التي استطاعت أن تتحدّى الطبيعة، فتنسج لنفسها، من الحرية سِتْراً، يتبدّى في نظرنا جسداً، ليبرهنوا على صواب وصيّة القدّيس بولس، القائلة: "استضيفوا الغرباء، فإنّ أُناساً كثيرين استضافوا في الغرباء ملائكةً، وهم لا يعلمون"، ممّا يدلّ كم هؤلاء في واقعنا تعويذةً، تبطل فينا الإحساس بباطل الأباطيل، وتعزّينا في أنفسنا، عندما تهبنا معنى لوجودٍ، يغدو فردوساً مستعاداً، بعد أن ظلّ، باغترابنا عن ماضينا، حلماً مفقوداً.