الانضباط العلمي يلزمك في قراءتك للتاريخ أن تبحث أولًا عن المعطيات والمعلومات وتنظر فيها وتدرسها ثم بعد ذلك تقوم بوضع نظريتك أو قراءتك للمشهد التاريخي بناء على ما سبق.
أما أن تؤمن بالنظرية أو أن تكوّن فكرة مسبقة جاهزة ثم تنتقي فقط ما يؤيدها، ففضلًا عن أنه ابتعاد عن الأمانة والانضباط العلميين فإنه أيضًا يوقعك في تناقضات فاضحة عند دفاعك عن قضيتك
من نماذج هذه التناقضات ما يكثر أن يقع فيه أغلب المدافعون باستماتة عن العثمانيين، وإليكم بعضًا من هذه التناقضات التي قد تطرقتُ لها فيما سبق ولكن فلنُذَكِّر إن نفعت الذكرى!
ففي سياق ردهم على إدانة الدولة العثمانية بأنها "الدولة الأحط حضاريًا والأكثر إجرامًا في التاريخ الإسلامي" يقولون "كل دولة لها ما لها وعليها ما عليها فاذكروا الإيجابيات كما تذكرون السلبيات".
بينما هم في تناولهم دولة المماليك في سياق تبريرهم العدوان العثماني على الشام ومصر وغزوهما، لا يذكرون سوى مثالب المماليك ونقائصهم التي-على حد قراءتهم للتاريخ-تعطي المبرر الكامل للاحتلال العثماني باعتباره قد جاء لتخليص العباد من "الظلم المملوكي".
وإذا ما ذكرت مظالم الحكم العثماني من ضرائب باهظة وفساد مالي وإداري فإنهم يشيرون لمظالم عصر المماليك ويقولون "وما الفارق؟ ألم يفعل المماليك المثل؟"
وما زلنا مع المقارنات "المملوكية-العثمانية" فإنك إذا وصفت حكم العثمانيين بالاحتلال الأجنبي فإنهم يسارعون برفض هذا المصطلح -الاحتلال- باعتبار أن المسلم في هذا العصر كان يعتبر أن كل بلاد الإسلام بلاده، أما إذا تطرقت للعنصرية العثمانية والتعصب للعرق التركي وتهميش المصريين عن حكم بلادهم فإنه سيقول لك "ألم يكن المماليك أجانب وافدين؟" سبحان الله.. هل المسلم ابن أي بلد مسلم أم هو أجنبي وافد يا هؤلاء؟!
وفي نفس سياق تبرير هذا العدوان العثماني فإن المدافعون يقولون "لقد أنقذ العثمانيون بلاد المسلمين من الاحتلال الأجنبي الذي كان ليقع لولا تدخل العثمانيين الذين أوقفوا المحتل وألزموه حده!"، فإذا أخبرتهم أن عصر الاضمحلال العثماني قد حل بعد أقل من قرن من اكتمال احتلال العثمانيين للبلاد العربية وأن الدولة العثمانية منذ ذلك الوقت كانت تأخذ في التآكل، أجابوك بـ"لقد كان ذلك بسبب تآمر القوى الاستعمارية الأجنبية وتكالبها على الدولة فماذا كان يمكن للعثمانيين أن يفعلوا في مواجهة هذه القوى؟"
ومن أطرف تلك التناقضات تلك المتعلقة بأيقونتهم السلطان عبد الحميد الثاني، فهم يكثرون من الحديث عن قوة شخصيته وشدة بأسه وتشميره لمجاهدة أعداء الدولة والدين وتصديه للأطماع الاستعمارية وما إلى ذلك.. ثم إذا أخبرتهم أنه قد شهد في عاصمته مؤتمرًا للقوى الاستعمارية الأوروبية لتقاسُم ممتلكات الدولة العثمانية المحتضرة، وأنه قد قضى فترة من حكمه ألعوبة لتيار "الاتحاد والترقي" وأنه قد سلّم جزيرة قبرص للبريطانيين وفقد مصر لصالح الاحتلال البريطاني وتونس لصالح المحتل الفرنسي، لقالوا لك في إشفاق ولوعة: "وماذا كان بيد هذا المسكين ليفعله وقد تكالب عليه أعداءه في الداخل والخارج؟".. المسكين؟ ألم يكن منذ قليل أسد الدين والدولة أو من-على حسب التعبير الشعبي المصري-"يجبر الأوروبيين على الذهاب للنوم من المغرب"؟
وإذا ما ذكرت افتقار مصر خلال الاحتلال العثماني لخدمات الطب والتعليم قالوا لك "أتنكر كل ما قدمه محمد علي باشا وأسرته من أعمال في المجالات الحضارية المختلفة؟" بينما في سياق حروب محمد علي باشا مع الدولة العثمانية يلعنونه ويصفونه بالمارق والمفارق للجماعة والمعتدي على إمام المسلمين إلى حد اتهام بعضهم له بالماسونية والتآمر على الإسلام! سبحان الله.. على من نحسب محمد علي وخلفاءه إذًن؟
والحقيقة أن ثمة تناقضات رهيبة في قراءتهم للتاريخ العثماني بشكل عام، بعضها يمس الأخلاق والقِيَم..
فهم في سياق دفاعهم يقول بعضهم "هذه دولة دامت أكثر من 6 قرون وحكمت مساحات واسعة".. باعتبار أن قولهم هذا يجُب كل ما نٌسِبَ للدولة العثمانية من سلبيات، فإذا ما أجبتهم بـ"والرومان كانوا إمبراطورية كبيرة حكمت لقرون، وبريطانيا كانت توصف إمبراطوريتها بأنها لا تغرب عنها الشمس.. وجنكيز خان بلغ مُلكه مساحات شاسعة في وقت قياسي.. فهل هذا مبرر لنقائص حكم كلا من الاحتلالين الروماني والبريطاني وجرائم جنكيز خان؟" قالوا لك "هذه دولة مسلمة فكيف تقارنها بدول غير مسلمة؟" حسنًا.. هؤلاء القوم قد قرروا أن الظلم والفساد والطغيان وسفك الدماء وترويع الأبرياء هي أعمال مقبولة طالما أن مرتكبها مسلم!
ثم يتساءلون عمن يسيئون للإسلام والمسلمين!
وإذا ذكرتهم أن هذه "الدولة التي دامت 6 قرون وحكمت مساحات واسعة من العالم" هي الأكثر فقدًا-بين دول المسلمين الكبرى عبر التاريخ- لبلدان إسلامية وعربية لصالح الاحتلال الأجنبي، سارعوا بمعاتبتك باستياء قائلين: "لكل دولة عصور اضمحلال فهل من الإنصاف أن تحكم على دولة العثمانيين فقط من فترة اضمحلالها؟"
فترة الاضمحلال تلك بدأت في نهايات القرن السادس عشر واستمرت حتى سقوط الدولة في القرن العشرين... أي أن الدولة العثمانية التي استمرت 6 قرون قد قضت أكثر من نصف عمرها الذي يتفاخر به هؤلاء في اضمحلال!
وهم يتحدثون عما يصفونه بـ"الأيادي البيضاء للعثمانيين على الحضارة الإسلامية" فإذا ما فتحت لهم باب المقارنة بالموروثات الحضارية لدول كبرى سابقة كالعباسية والدول الأندلسية والدولة المملوكية، اتهموك بالظلم للعثمانيين المساكين الذين شغلهم الجهاد عن الاهتمام بالعلم والحضارة كسابقيهم.. وإذا ما لفتت أنظارهم أن الدول الإسلامية السابقة للعثمانيين كان لها أعداءها وكانت تواجه نفس التحديات أسقط في أيديهم وسارعوا بالبحث عن اتهام لشخصك بالتحامل أو الظلم أو حتى استحضروا تلك التهمة الهزلية: الحقد على تاريخ المسلمين.
كل هذا نتيجة طبيعية لوقوعهم في فخ الارتباط العاطفي بالدولة العثمانية قبل البحث بشكل جيد عنها وتكوين وجهة النظر بناء على المعلومات الكافية عن تلك الدولة وتاريخها.. وهذه بدورها نتيجة طبيعية لأن موجة التعلق المَرَضي بالدولة العثمانية لم تبدأ في الأساس من منطلقات تاريخية علمية وإنما من منطلق سياسي بحت يرتبط بنشأة جماعة الإخوان المسلمين الموجهة لهذا الارتباط "الديني-التاريخي" في العقد الثالث من القرن العشرين، حيث قامت دعاية تلك الجماعة المتطرفة على استغلال "الصدمة العاطفية" للبسطاء إثر سقوط آخر دولة إسلامية كبرى تنتمي للنمط العتيق ويتلقب حكامها بـ"الخلفاء" (وهو لقب لم يحملوه رسميًا سوى من العام 1876م بموجب دستور عبد الحميد الثاني).. فكان لا بد لهم أن يستغلوا ذلك السقوط باعتباره "قميص عثمان"!
(وليلاحظ القارئ أني هنا اتحدث عمن يدافعون عن العثمانيين من منطلق ديني-سياسي وليس هؤلاء الذين لديهم وجهة نظر علمية بحتة نختلف معها ولكننا نحترمها ونحترمهم).
فمن الطبيعي إذن أن يمتلئ قميص عثمان الخاص بهم بالخروق والرقع المهترئة، وألا تصمد حججهم لأي مدقق يبذل أبسط الجهد لاكتشاف تلك التناقضات المضحكة!
-يتبع-