أوفدت منظمة الإغاثة الدولية التابعة للمنظمة الأممية مندوبيها للقيام بزيارة إلى بيت عائلة شقيقي الفقيد "فنايت الكوني" بطرابلس، مشفوعةً بوصيّة تفيد بإطلاق اسم الفقيد على أحد الآبار التي احتفرتها المنظمة في أحد المواقع بالصومال، تقديراً لدوره في إعلاء شأن قارّة مهددة كالصحراء الكبرى.
ولا أملك إلاّ أن أحسد السادة القائمين على هذه المنظمة على فطرتها التي ألهمتهم إطلاق اسم هذا الإنسان الحكيم على كيان يجهل الكثيرون قيمته الرمزية، كما الحال مع "البئر"، تخليداً لذكرى الفقيد، سيّما في أرضٍ منكوبة بالجفاف في الأعوام الأخيرة كالصومال.
فهذا الرجل، الذي نشأ في ربوع أقسى صحاري العالم، وأعظمها جمالاً واكتمالاً، كما يصفها العلّامة الفرنسي "مانو"، وذاق في رحابها مرارة الظمأ مراراً، لتكون تجربة هذه المرارة حافزاً له لكي يسخّر حياته تالياً لإنقاذ التائهين، الذين انقطعت بهم السُّبُل، من شرّ الموت عطشاً.
وهي تجربة حظيتُ بشرف مشاركته مأدبتها العصيّة، في زمن الطفولة، عندما ترافقنا في إحدى مغامراتنا الاستكشافية، التي استدرجَنا فيها إغواء الصحراء إلى متاهة لم نعد منها إلاّ بأعجوبة، في صيف أحد أعوام زمن الطفولة، عندما كان اللهو بكائناتها دُميتنا، والاستسلام لمشيئتها أرجوحتنا، واستطلاع ما خبّأته عنّا، خلف الآفاق، شغفنا، وكان من الطبيعي أن تقتصّ منّا في أحد الأيام جزاء استهانتنا بناموسها، لندفع مكوس الحضور في فردوسٍ لا يحتمل العبث، لا لشيء إلاّ لأنه حرية الحدود القصوى.
لا أذكر كيف اهتدينا إلى مضارب النجوع أخيراً، ولكن ما لا يُنسى في التجربة هو طعمُ الظمأ. تجربة أيقنتُ فيها لأوّل مرّة أن قلبي توقّف. مكيدة لعبت في حبكها الطبيعة دور البطولة. ففصل الصيف دوماً أقسى بما لا يُقاس إذا تزامن مع الحضور في صحراء جبل نفوسة الغربية، كما حدث ذاك العام، لأن الموقع يرتفع عن سطح البحر بأكثر من ألف متر، مما يضاعف من سطوة الحريق، في فلاةٍ ملفّقة من امتدادٍ طيني مسطّح، تغيب في رحابه الأشجار الأكبر حجماً، والأكثر جوداً بالظلال، بل وتختفي من ربوعها أنواع الأعشاب البريّة، التي تنقطع من العراء مع حلول الصيف، لتفسح المجال لسيول السراب التي تجتاح كل المدى، فيتمادى القيظ، ويتدفّق بنهم ألسنة لهبٍ، تصهر البدن، لتحرّره من آخر ما اختزنه من رطوبة، ليتحوّل إلى ذلك اليبيس المجرّد، الذي وضعه هيراقليط مقياساً في الانتماء إلى حرم الألوهة.
ومن الطبيعي أن يتزلزل كيان مخلوق ملفق، بموجب عهد، من طينتين: طينة الماء، وطينة الطين؛ لأن هجرة الروح، رهينة غياب الماء من مخزون الكيان. هنا ينفرط العقد، والنتيجة تتبدّى في حرف الجود بأنفاس النزع الأخير. تجربة الجود بالأنفاس، في مرحلة طفولة حديثة العهد بالتكوين، درسٌ لا يُنسى، وبديهي أن يختم الوجدان ببصمة عدمٍ يعرفه كل من اصطفته الأقدار، فحدّق في سيماء الموت يوماً.
والتجربة لا تتحوّل بعثاً يحدّد مصير النموذج، المبعوث من ميتة، لتغدو في حياته قدراً، بمعزل عن صيغة النجاة التي لم تكن لتتحقّق لولا حبكة غيبيّة مدبّرة من خارج، لا بفضل مواهب البطل في المسرحية التراجيديّة. ويبدو أن هذا البُعد، في امتحان ذلك العام، هو ما احتفر في روح الشقيق ذلك التوق الوجودي المحموم، ليصير في دنياه رسالة، وهو: تكريس الوجود كلّه لإنقاذ حياة الأنام من الهلاك عطشاً!
احترف الرجل هذا الأفيون منذ اغترب عن الصحراء، وارتاد عالم العمران، ليصير، بحكم عمله في الطيران العمودي، ملاذاً اعتادت الدولة أن تستجير بحكمته كلّما طاب للصحراء الكبرى أن تصطفي لنفسها قرباناً ضلّ السبيل، ليتمكّن من إنقاذ العشرات، فلم تجد القوّات المسلّحة ما تكافئه به، في نزالها المستميت مع تنّين الظمأ، سوى تخصيص بئر، إحتفرته إحدى الشركات النفطيّة في منطقة أوباري، كان بمثابة شهادة تقدير على بطولته في سبيل إنقاذ أرواح الناس من بطش تنّينٍ، هو أعلم الناس كم هو عدوٌّ مبين. وهو ما لم يكن ليحدث لولا هويّة "فنايت" كشهيد شاءت له الأقدار أن يبقى على قيد الحياة، بعد أن أفلت من مكائد الظمأ مراراً، ونجا من لدغة حيّة، وخاض نزالاً مريراً مع أكثر وحوش الصحراء بطشاً وهو الضّبع، واستطاع أن يعود من رحلة معراج أسطورية إلى المجهول، بتدبيرٍ مُحكَم من ملل الخفاء التي يُصرّ أهل الصحراء أن يسلّموا لها بأسبقيّة المقام في صحراءٍ، هُم سكّانها الأصليون، وما الأحياء فيها سوى أضيافٌ فانية!
تلك الذخيرة هي مؤهلات هذا الناسك، المعتزل، المفتون بالصمت، ليقينه بأن الكلم ضربٌ من ممارسة لدنسٍ، عملاً بالوصيّة القائلة بأنّ من يتكلّم وحده لا يعلم، ليس هذا وحسب، ولكن مَن يتكلّم وحده لا يعمل أيضاً؛ وكثيراً ما تندّر كيف تخذله عضلة اللسان كلّما حاول أن يدلي برأي في محفل، لتفاجئه، كيف تتضخّم، وتتنامى حتى تملاً الفم كلّه، فلا يملك إلاّ أن يصمت!
وكان من الطبيعي أن يستهويه البئر، فكنت شاهداً على حملته في استكمال إجراءات التخصيص الروتينيّة، ثم نضاله في سبيل استنطاق البئر لكي يدلي بشهادته كبؤرة وجودية، رسالتها أن تحبك صيغة حياة، تماماً كبئر الحمادة الغربية الأسطوري، الذي استجرنا به في إحدى رحلاتنا التقليدية إلى ربوع وطن رؤانا السماوية، المحفورة في صلدٍ عصيّ، في جبل يرتفع عن سطح البحر بألف متر، بعمقٍ يزيد قطعاً عن ألف متر، فحقّ لأجيال الصحراء أن تردد يقيناً يقول أن هاوية البئر من صنع نيزك سماوي اصطدم بالأرض يوماً. هام هذا الإنسان بالبئر، وهو الذي عاش في عالم العمران، بروح الإنسان البرّي، المعادي بالفطرة للواقع الحضري، ليبقى غريباً، حذراً، متقمّصاً هوية الضيف، اللا معنيّ بتاتاً بشئون واقع المستضيف، إلاّ بقدر المسئولية الأخلاقيّة، المفروضة بحرف ربوبيّ هو: الواجب! ولذا وجد في البئر دميةً تعزّيه في محنة اغترابه الأبديّ، وهو الذي لم ينتمِ يوماً إلى هذا العالم، ولم تستدرجه مفاتن هذا العالم، وظلّ وفيّاً لقيمه، ومريداً لزهده، مستسلماً لعزلته، برغم وجوده بيننا، كما يليق بكل مريد حرية في بُعدها الأقصى، إلى أن حلّ في حرمه ضيفٌ باسم البئر، فدفن في هاويته كل أشجانه، الناجمة عن اغترابه.
كان سعيداً وهو يعاند الواقع الدنيوي لكي يُرضي بئره. استمات في احتفار مسافة كيلو مترات لمَدّ أعمدة توفّر الكهرباء اللازمة لاستخراج الكنز من أعماق الأحفورة. ثمّ استقدم أشجار الزيتون من سواحل الشمال ليكون أول من استزرع هذه الفصيلة في أرض الجنوب، لتحتلّ لنفسها موقعاً نفيساً، إلى جانب أشجار النخيل، في تلك الرقعة الصحراوية القاسية، الملاصقة لأضرحة أُناسٍ هجعوا في ذلك الموقع منذ آلاف الأعوام.
وكان يروقه أن يتندّر، كلّما أبصر الفضول في سيمائي، بروحه الطفولية: "إنه البئر"! مومئاً إلى عملي الروائي الأوّل المعنوَن بـ "البئر"، كأنه يريد أن يخبرني بأن شغفه بالبئر إنما هو ترجمة امتنان عن الدلالة الرمزية التي يعينها هذا المستودع في واقع منيع وعصيّ كالصحراء. فسواء كانت لمسة المسّ في سطح يابسة ظمأى، عملاً من صنع النيازك الفلكية، أو مأثرة خرافية من إبداع عمالقة الزمن الضائع، بيد أن الوديعة تبقى محاولة بطولية للمصالحة بين روح يابسة تسكن رحم أمومة هي الأسافل، وبين بُعدٍ بعيد يقيم في سماء المحال.
إنه وثيقة العهد في سجل السجال الخالد بين الأرض والسماء، الماء فيه وسيط، بدليل أنه لا يقنع بديمومة حضورٍ في حضن أمومة هي اليابسة، فيتبدّد ليرتاد حرم سماء هي أبوّة، ولكنه لا يهنأ بالاً في مقام الملكوت، ما لم يستعد حرفه، ما لم يستعد جرمه الضائع ليتنزّل في الأرض غيثاً ليُغيث! يتنزّل ليبذر في رحم الأسافل وصيّة الأعالي. يبذر وصيّة قدسيّة هي: الحرية؛ لأن ما هو الماء إن لم يكن حرية جسد؟ وما هي الحرية إن لم تكن ماء الروح؟
هذه هي الأنشودة التي تتراطن بها الآبار مع كل برطمة دلوٍ في غمر القيعان، لأنها ليست سوى نداء العهد في علاقة السماء بالأرض، وأمثال "فنايت الكوني" وحدهم يستطيعون أن يفكّكوا كلمة السرّ في الطلسم. ولهذا السبب سيظلّون أحياء نستشعر حضورهم بيننا، كلما جادت علينا السماء بلقية، ملفّقة في صيغة غيث، كأنها تعويضٌ لهم على اغترابهم بيننا، أعوام وجودهم في واقع باطل أباطيلنا، فلا نملك ما نقدّمه لهم تكفيراً عن خطايانا بحقّهم سوى الاحتفاء بالآبار، لأنها البرهان، لا على وجودهم، ولكن حُجّة على خلودهم!
إضافة:
يروي هيرودوت كيف كان قدماء الليبيين يذهبون للنوم على أضرحة أسلافهم، الملقّبة في معجم علماء الآثار باسم "إيدَبْنِي"، (المتداول في لسان أحفادهم الطوارق إلى اليوم) طلباً للنبوءة، فلا يجدون ما يمكن أن يكافئوا به هؤلاء الرسُل سوى الجود عليهم بنصيب من أنفس كنز في الصحراء، وهو نثرة الماء! وهي التقليد الذي مازال طوارق الصحراء الكبرى يمارسونه في حقّ أسلافهم إلى اليوم، يقيناً منهم بأن سلسبيل الماء، لا نزيف الدمّ، هو القربان المعتمد في ناموس الأرواح.
وعندما تجود منظمة أممية معنيّة بمفهوم إنساني، بل وجوديّ، كالإغاثة، بنياشينها الرمزية، المترجمة في حرف "بئر"، هو بالهوية غيثٌ، على أولئك الذين أدمنوا أفيون إغاثة الخليقة من الموت عطشاً، أمثال فنايت، فإنها لا تهديهم، في الواقع، قيمةً تسكن قيعان الحفرة التي لا خير فيها (كما ينعتها حكيم الجامعة في سفره)، ولكنها تجلّلهم برايات الحقيقة، التي تهيمن هناك، في عمق غمرٍ، يسكن البئر.