يقول المعارضون لوصف الحكم العثماني لمصر بـ"الاحتلال" في سياق هجومهم على هذا المصطلح "إن استخدام وصف الاحتلال لا يلائم عصر ضم مصر للدولة العثمانية حيث أن هذا العصر لم يعرف فيه المسلمون فكرة الدولة القومية، لأن المسلم كان يعتبر نفسه في بلده طالما أنه في بعض بلاد الإسلام".

والحقيقة أن هذه الحجة تبدو للقارئ المتمعن في التاريخ الإسلامي شديدة الهشاشة والتهافت.

تعالوا نتتبع الأمر تاريخيًا، ففي عصرا الخلافتان الراشدة والأموية لم تتعدد دول المسلمين، اللهم إلا في فترة ما بعد تقاسم كلا من الخليفة الراشدي علي بن أبي طالب وأول خلفاء الأمويين معاوية بن أبي سفيان مناطق النفوذ، وإن كان معاوية لم يتلقب بالخلافة إلا بعد اغتيال عليّ.. أو خلال فترة تمرد عبد الله بن الزبير على الأمويين في الحجاز والمناطق الموالية له.

ولكن لم تتضح فكرة انقسام المسلمين بين دول متفرقة إلا مع بداية العصر العباسي وقيام كلا من دولة العباسيين في الشرق والدولة الأموية في الأندلس والمغرب الأقصى.. ثم بعد ذلك حالة الانقسام الكبير الذي شهده العالم الإسلامي بين خلافة عباسية في الشرق وثانية فاطمية في مصر (مع نزاع بين الدولتان على الشام) وأخرى أموية في الأندلس والمغرب.

وتحوّل الخلافة العباسية إلى نظام "الدول المرتبطة بالخلافة شكليًا المستقلة فعليًا" وسقوط دولة الأمويين الأندلسية وظهور نظام "ملوك الطوائف".

في تلك الفترة بدأت معرفة المسلمين للدولة القومية لأسباب طائفية وقبلية، فطائفيًا كان العباسيون يمثلون المعسكر السني والفاطميون يمثلون المعسكر الشيعي، وقبليًا كان الموالون لبني أمية يتعصبون لدولتهم-قبل سقوطها وتمزقها- والموالون للفاطميين كذلك في حين كان الولاء للعباسيين اسميًا بعد أن تسلط القادة والوزراء على مقام الخلافة.

مع ذلك الوضع المزري الذي أدخل المشرق الإسلامي في حالة تشرذم واقتتال أدت إلى سهولة الاجتياح الفرنجي المعروف بالصليبي لبعض مناطق الشرق وإقامته مملكة صليبية في بيت المقدس وإمارات في أنطاكية والرها وطرابلس الشرق، وأدخل الأندلس في حالة مماثلة أدت إلى سقوط معاقل إسلامية هامة في أيدي الإسبان والبرتغاليين، تراجعت فكرة الارتباط بدولة مسلمة ضد أخرى مقابل تطلع جموع المسلمين لمن يعيد توحيدهم لطرد أعداءهم من بلادهم، وهو ما يفسر نجاح الحركات التي اضطلعت بذلك كدول الزنكيين والأيوبيين في الشرق والمرابطين والموحدين في الغرب.

ولأن هذه الدول لم تكن حدودها على حالة الاستقرار الكاملة، ولأن أغلبها قد تمخض انتقال السلطة فيه من الجيل الأول للجيل التالي عن تجدد حالة التشرذم والاقتتال، فقد أدى ذلك لتراجع فكرة ارتباط المسلم بدولة بعينها.

 وأخيرًا تحقق هذا الارتباط ابتداءً من النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي، فالمماليك وحدوا مصر والشام والحجاز وجنوب شرقي الأناضول في دولة واحدة، وجعلوا منطقة الإمارات التركمانية الأناضولية بمثابة حد فاصل مع الدولة العثمانية الناشئة، ونهر الفرات حدًا لهم مع المغول "الإيلخانيين" الذين سيطروا على العراق وفارس، وأعادوا إحياء الدولة العباسية.

وتلقب سلاطين المماليك بـ"خادم الحرمين الشريفين" و"صاحب القبلتين".. واتسمت الدولة المملوكية بالعزوف عن التوسع (إلا في حالتا فتح قبرص وغزو رودس وهذا لضرورة استراتيجية دفاعية في المقام الأول) بينما كان العثمانيون يقيمون دولتهم في الأناضول والبلقان ويستعدون لانتزاع القسطنطينية الروم والقضاء على دولتهم.. واستطاع آل نصر في الأندلس أن يصمدوا بمملكة غرناطة إلى حين.

هنا نرى أن الدولة الوحيدة التي كانت لها حدود مستقرة ثابتة وعاصمة راسخة تستضيف الخلافة الإسلامية كانت دولة المماليك.. فكان من الطبيعي أن ينشأ عند أهلها شعور بالانتماء الوطني والقومي لدولتهم، بينما لم يكن هذا الشعور بنفس الرسوخ والانتشار والوضوح في سائر الدول الإسلامية الأخرى بحكم حالة انعدام الاستقرار التي اعترتها.

والقارئ في تاريخ تلك الفترة يلاحظ بسهولة أن المسلم إذا دخل دولة المماليك لم يشعر بالاغتراب، وصار من أهله بل وربما ترقى في المناصب فيها (كعبد الرحمن بن خلدون مثلًا الذي هاجر من تونس وتولى في مصر قضاء المالكية) بينما قلما سمعنا عن أن أبناء السلطنة المملوكية كانوا يهاجرون لبلد إسلامي آخر.. 

إذن فالقول بأن المصري خلال العصر المملوكي لم يكن يحس بأنه له انتماء وطني وقومي هو عبث!

إضافة لأمر آخر يلاحظه القارئ في كتابات بعض الفقهاء عن السياسة، فقد تناولوا فكرة وجود إمامين حاكمين للمسلمين في بلدين متباعدين، فقال بعضهم بجواز ذلك لاتساع أقطار بلاد المسلمين. ألا يعني ذلك أن فكرة وجود الدولة الكاملة المستقلة والانتماء لها كانت موجودة بشكل أو بآخر؟

ألا يؤكد كل ما سبق ضعف وهزلية حجة المدافعين عن الاحتلال العثماني لمصر أن "مصطلح الاحتلال لا يلائم هذا العصر"؟

ومع الأسف فإن حجتهم تلك تجد من يصدقونها لا لشيء إلا لأن من صاغوا تلك الحجة يعلمون جيدًا أنهم إنما يستهدفون أناسًا يغلبون العواطف الساذجة على إعمال العقل في أحداث التاريخ وتحليلاتها!

-يتبع-