مرّت حركةُ جماعات الإرهاب السّياسيّ، في البلاد العربيّة المعاصرة، بلحْظات تاريخيّة ثلاث اتّخذت في كلٍّ منها شكلاً مختلفًا: في الأهداف وفي الأدوات المستخدمة.
وهي لحْظات متعاقبة في الزمان، ولكنَّ بُرَهًا منها كانت متزامنة. وفي تعاقُبها الممتدّ على مدى عقودٍ أربعة – على الأقلّ – اتّسع نطاق الخبْرات القتاليّة لجماعات الإرهاب، فأمكنها أن تنتقل من أسلوب الضّربات المباغتة والموضعيّة لأهدافها الأمنيّة والمدنيّة إلى أسلوب المعارك الطويلة المفتوحة مع أجهزة الأمن والجيوش لسنوات عديدة؛ كما في حالات الجزائر وسورية وليبيا والصّومال وقبلها – من خارج الدائرة العربيّة – أفغانستان.
تقترن لحْظات الإرهاب الثّلاث بميدانيْ عمل أو مسرحيْن للعمليّات، أحدهما كان ساحةً لِلَحْظتيْه الأولى والثّالثة. لكنّ ميدان العمل في اللّحظة الثالثة من الإرهاب تلقّى مئات أضعاف ما تلقّاهُ في اللّحظة الأولى؛ حين كان عملُ جماعات الإرهاب ما يزال داخليَّ المصادر والدّوافع والموارد، مفتقرًا إلى الأدوات والخِبرات والأداء الاحترافيّ، وقليلَ الموارد البشريّة العاملة في شبكاته. ميدان عمله، في لحظتيْه الأولى والثّالثة، هو الدّاخل العربيّ: مجتمعاته ومدنه ومؤسّساته المستهدفة به وأجهزة الدّولة منها على نحوٍ خاصّ. أمّا ميدانُه، في لحظته الثّانيّة، فكان بلدان الغرب: مجتمعاتٍ ودولاً ومؤسّسات وأفرادًا...
تعرّضت بلدانٌ عربيّة، في لحظةٍ أولى منه، لموجات متعاقبة من العمليّات الإرهابيّة، منذ النصف الثّاني من عقد السّبعينيّات من القرن الماضي حتى العقد الأوّل من القرن الحالي. كانت مصر، حينها، ساحة العمل الرئيس التي تلقّت أكثر تلك الضّربات هولاً وإيلامًا، في شكل اغتيالات سياسيّة وتفجيرات لمراكز أمنيّة وسياحيّة ودينيّة. ثمّ ما لبث مسرح العمليّات أنِ انتقل إلى الجزائر، في أوائل التّسعينيّات، فتعرّضت البلاد لعمليّة استنزاف بشريّ وأمنيّ واقتصاديّ شامل، ولأزمةٍ سياسيّة حادّة في امتداد نتائجه. في الأثناء نقل الإرهاب عمليّاته إلى بلدان أخرى منها السّعوديّة وتونس والمغرب ولبنان واليمن والأردن والكويت. واقترن اتّساع نطاق عمليّاته بعودة من سُمُّوا "الأفغان العرب" من أفغانستان بعد سيطرة حركة "طالبان" عليها؛ هؤلاء الذين أضافوا خبراتهم القتاليّة، التي اكتسبوها في المعارك الأفغانيّة، إلى خبرات الجماعات الإرهابيّة الأولى المنشقّة من حركة "الإخوان المسلمين" في مصر ذات الجذور القطبيّة الرّاديكاليّة.
انتقل العمل الإرهابيّ، في لحظةٍ ثانية منه، إلى ساحات خارجيّة: ابتداءً إلى ضرب مصالح غربيّة خارج الغرب (نيروبي ودار السلام)، وتاليًا داخل بلدان الغرب نفسها. وربّما كانت تفجيرات نيويورك ومحاولة ضرب واشنطن وپنسيلڤانيا أكبر عمليّاته هناك، ومع ذلك لم تكن قليلةَ الأثمان تلك الضّرباتُ الأخرى التي أصابت باريس ومدريد ولندن وسواها من الأهداف الغربيّة الأخرى. آذَنَ هذا بتحوّلٍ في العلاقة التي نُسِجت بين مخابرات الدول الغربيّة و"القاعدة" (إبّان المعركة المشتركة بينهما ضدّ الوجود السّوفييتيّ في أفغانستان)، وبَدَا لوهلةٍ وكأنّ حريق المواجهة مع دول الغرب سيمتدّ إلى الأبعد، وستخبو جمْراتُه في الدّاخل العربيّ. غير أنّ ذلك تبيَّن خطؤُه، سريعًا، ما إن عادت الجماعاتُ تلك إلى تنفيذ عمليّاتها الموجعة في المغرب والسّعوديّة ولبنان، ثمّ وجدت لها – بعد سودان التّرابي والبشير – مواطئ أقدامٍ في جنوب اليمن، وبعده في العراق بعد غزوه واحتلاله وقيام سلطةٍ عملية فيه.
في لحظةٍ ثالثة منه، هي الفصلُ الأخطرُ في تاريخه كلّه، بات الإرهاب قوّةً موازيّةً لقوّة الدّولة و، أحيانًا، متفوّقًا عليها في القدرات؛ وباتت ساحتُه الرئيس البلدانُ العربيّة الواقعة في جدول أعمال التّدمير والتفكيك. إنّها اللّحظة العولميّة للإرهاب بمعناها الشّامل؛ حيث شبكاتُه البشريّة دوليّة لا محليّة فقط، وحيث ارتباطاتُه مكينة بدولٍ وأجهزة استخبارات: تُوفِّر له الأموال والأسلحة والدّعم اللّوجيستيّ والمعلومات الدقيقة، بل وتشاركه – أحيانًا – في عمليّاته العسكريّة في العمق العربيّ. في اللّحظة هذه – وقد بدأت مع ما سُمِّيَ بـ"الرّبيع العربيّ" – سُخِّرت تنظيمات الإرهاب لأداء أدوار الفتك والتّدمير والتّخريب بالمجتمع والدّولة خدمةً لمصالح رُعاتِها الخارجيّة. وهي قامت بذلك نيابةً عنهم لترفع عنهم الأكلاف الفادحة التي كان عليهم أن يدفعوها – بشريًّا وماديًّا – فيما لو أرسلوا جيوشهم إلى تلك الساحات العرّضة للتّخريب. على أنّ في هذه اللحظة الثّالثة، بالذّات، انفضحت دعاوى الجماعات الإرهابيّة ومزاعمها في إقامة "دولة إسلاميّة" بعد تبيُّنِ ارتباطاتها الخارجيّة واندراج مشروعها التّدميريّ في نطاق المشروع العولميّ التّفكيكيّ !