لا تنظر إيران إلا بعين القلق إلى السياسة التي يعتمدها الفاتيكان حيال المنطقة. وسواء في زيارة البابا فرنسيس إلى العراق أو في مواقف البطريرك الماروني في لبنان بشارة الراعي، فإن طهران استنتجت تدخلا دوليا في شؤون بعض العواصم التي سبق أن تباهت بإعلان السيطرة عليها.
وفيما تحركت وساطات أسفرت عن إعادة تنشيط لجنة الحوار بين حزب الله وبكركي في لبنان، شنت قناة العالم التلفزيونية التابعة لإيران هجوماً ضد البطريرك الراعي قبل أن تعتذر لاحقا وتلصق الأمر بمقال حذفته لا يعبر عن وجهة نظرها.
والظاهر أن احتجاج البطريركية واتهامها جهة أجنبية بالتدخل في شؤون لبنان والكنيسة، دفع طهران للإيعاز لقناتها بتدبر مخارج لهذه الورطة. ناهيك من أن الأمر مسّ صلاحيات حزب الله في لبنان في إدارة أجندات إيران ومصالحها في البلد، بما في ذلك إدارة العلاقة مع المسيحيين ومع البطريركية المارونية، كما أحرج التيار العوني بصفته الغطاء المسيحي الذي يحتاجه الحزب ويتمسك به.
غير أن ما صدر عن قناة العالم، التي تدار من طهران؟ يعبر عن حقيقة التبرم الإيراني من نشاط الكنيسة الكاثوليكية في المنطقة، خصوصا أن استمرار البطريرك الراعي في الدعوة، وبشكل متصاعد، لعقد مؤتمر دولي لدعم لبنان وتثبيت حياده، لا يمكن أن يجري دون دعم ومباركة البابوية الفاتيكانية. كما أن مهاجمة بعض الجهات الميليشياوية المحسوبة على إيران في العراق زيارة البابا فرنسيس للبلاد، يفصح عن المزاج الإيراني، أو على الأقل ذلك لدى الحرس الثوري، ضد مقاربة البابا وسياساته حيال شؤون مناطق النفوذ المحسوبة على طهران.
والحال أن إيران شديدة التوجس من أي منافسة خارجية تتقدم باتجاه دول مثل لبنان والعراق وسوريا واليمن. وقد بدا ذلك جليا في الموقف من الزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت (6 أغسطس الماضي) بعد يومين من كارثة انفجار مرفئها. دفعت طهران على وجه السرعة بوزير خارجيتها محمد جواد ظريف نحو لبنان، حيث شن من بيروت هجوماً ضد تدخل باريس والدول الغربية في الشؤون اللبنانية.
وتمثل زيارة البابا فرنسيس إلى العراق جهداً مقلقا بالنسبة لطهران لجهة توق العراقيين إلى الانفتاح على العالم الخارجي وإبراز الطابع التعددي لبلدهم، ولجهة إطلالة العالم، من خلال البابا، على العراق كبلد مستقل، في تقاليده وثقافته وهويته ومكانته، عن الوجهة الوحيدة التي تريدها إيران لهذا البلد. كما أن الزيارة تأتي لترفد الشخصية العراقية، بكل مكوناتها، والتي عبر عنها الشارع العراقي منذ "انتفاضة تشرين"، وتدعم مقاومة العراقيين الصعبة للغة العنف والسلاح التي استخدمت لتصفية واغتيال الناشطين.
تلقت طهران صفعة البابا في العراق. "فلتصمت الأسلحة"، دعوة وجهها البابا فرنسيس بما فُهم بوضوح أنها موجهة إلى الأطراف التي ترتكب الجرائم بحق الشباب المنتفضين في العراق، كما تلك التي تطلق الصواريخ المروعة في البلد.
والصفعة الثانية تمثلت في دعوة الحبر الأعظم العراقيين إلى "تقوية المؤسسات"، بما يعني إعلاء شأن ومفهوم الدولة على ثقافة الدويلة وسلوك الميليشيات. وسواء تعلق الأمر في العراق أو في لبنان، وسواء جاءت الكلمات من البابا فرنسيس أو البطريرك الراعي، فإن الرسالة واحدة واضحة في الدفاع عن سيادة الدولتين وإعلاء شأن مؤسساتهما و "التصدي لآفة الفساد"، ومن يقف حاميا راعيا لها.
لا تمثل البابوية في روما سلطة روحية دينية فقط. مثلت الكنيسة الكاثوليكية وجهة سياسية دولية وبوصلة لها في مراحل تاريخية عديدة. ولطالما اعترف العالم، في العصر الحديث، بالدور الرائد الذي لعبه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني عبر شعاره الإنجيلي "لا تخافوا" في تصدّع المعسكر الذي كان يقوده الاتحاد السوفياتي في العالم. فإذا ما كان البابا يوحنا (البولندي) عام 1978 أول حبر أعظم غير إيطالي منذ 455 عاماً، فإن البابا فرنسيس (الأرجنتيني) هو أول بابا من أميركا اللاتينية في تاريخ البابوية. وبين الرجلين خط سير واحد يسعى لحفر مسار تاريخي لافت في التأثير على خرائط العالم الجيوستراتيجية.
يستعيد البابا فرنسيس موقف الراحل يوحنا بولس الثاني بشأن العراق. رفض الأخير التدخل الخارجي في شؤون هذا البلد عام 2003، ويأتي البابا الحالي ليطرق نفس الباب الذي تسمعه جيداً آذان الحاكم في إيران. فإذا ما كانت طهران مطلعة على تأثير البابا الراحل في اندثار الامبراطورية السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، فإنها تدرك، بجدية، ما للبابا الحالي وامتدادات بابويته في المنطقة من تأثير يفسر رد الفعل الإيراني المتوتر حيال مسعى البطريرك الراعي في لبنان.
تحفظت ميليشيات إيران في العراق على زيارة رئيس الكنيسة الكاثوليكية في العالم للعراق. بلغ الضيق بطهران إلى تذكير البابا بجميلها في تسهيل زيارته، ذلك أنه، وفق ما غرد مساعد رئيس البرلمان الإيراني أمير عبد اللهيان، "لولا دور وتضحيات أبو مهدي المهندس واللواء سليماني وشهداء محاربة الإرهاب وداعش في العراق والمنطقة، لما تمكن البابا من دخول العراق اليوم بأمان وسلام".
لا يمكن لطهران إلا التطلع بعين الريبة إلى لقاء البابا فرنسيس بالمرجع الشيعي الكبير علي السيستاني في النجف. لا يؤمن السيستاني بولاية الفقيه ولا بمرجعية الولي في إيران على شيعة العالم. في قمّ من قرأ اللقاء بصفته تأكيدا لمرجعية النجف في العراق وإعلاء من شأنها على حساب مرجعية قم في إيران. كان رجل الفاتيكان الأول قد وقع في أبوظبي قبل عامين (4 فبراير 2019) وثيقة "الأخوة الإنسانية" مع شيخ الأزهر أحمد الطيب. بدا في في تلك المناسبة آنذاك كما في لقائه مع السيد السيستاني في النجف أن البابا فرنسيس والكنيسة يعرفان العنواين الصحيحة والمفاتيح الحقيقية للمنطقة.
منذ سقوط بغداد عام 2003 بعد عامين على سقوط البرجين في نيويورك روجت طهران لنفسها حامية للمسيحيين وللأقليات في الشرق. شيء ما حصل في منزل متواضع في النجف. التقى البابا مع المرجع الأعلى على سقوط هذا الزعم، ذلك أن لا شيء يحمي العباد إلا دولتهم ومؤسساتها و "صمت الأسلحة".